كتاب فتح الباري لابن حجر (اسم الجزء: 2)
شَرْحِ الْمَشَارِقِ قَوْلُهُ فِتْنَةِ الْمَحْيَا وَفِتْنَةِ الْمَمَاتِ قَالَ بن دَقِيقِ الْعِيدِ فِتْنَةُ الْمَحْيَا مَا يَعْرِضُ لِلْإِنْسَانِ مُدَّةَ حَيَاتِهِ مِنَ الِافْتِتَانِ بِالدُّنْيَا وَالشَّهَوَاتِ وَالْجَهَالَاتِ وَأَعْظَمُهَا وَالْعِيَاذُ بِاللَّهِ أَمْرُ الْخَاتِمَةِ عِنْدَ الْمَوْتِ وَفِتْنَةُ الْمَمَاتِ يَجُوزُ أَنْ يُرَادَ بِهَا الْفِتْنَةُ عِنْدَ الْمَوْتِ أُضِيفَتْ إِلَيْهِ لِقُرْبِهَا مِنْهُ وَيَكُونُ الْمُرَادُ بِفِتْنَةِ الْمَحْيَا عَلَى هَذَا مَا قَبْلَ ذَلِكَ وَيَجُوزُ أَنْ يُرَادَ بِهَا فِتْنَةُ الْقَبْرِ وَقَدْ صَحَّ يَعْنِي فِي حَدِيثِ أَسْمَاءَ الْآتِي فِي الْجَنَائِزِ إِنَّكُمْ تُفْتَنُونَ فِي قُبُورِكُمْ مِثْلَ أَوْ قَرِيبًا مِنْ فِتْنَةِ الدَّجَّالِ وَلَا يَكُونُ مَعَ هَذَا الْوَجْهِ مُتَكَرِّرًا مَعَ قَوْلِهِ عَذَابِ الْقَبْرِ لِأَنَّ الْعَذَابَ مُرَتَّبٌ عَنِ الْفِتْنَةِ وَالسَّبَبُ غَيْرُ الْمُسَبَّبِ وَقِيلَ أَرَادَ بِفِتْنَةِ الْمَحْيَا الِابْتِلَاءَ مَعَ زَوَالِ الصَّبْرِ وَبِفِتْنَةِ الْمَمَاتِ السُّؤَالَ فِي الْقَبْرِ مَعَ الْحِيرَةِ وَهَذَا مِنَ الْعَامِّ بَعْدَ الْخَاصِّ لِأَنَّ عَذَابَ الْقَبْرِ دَاخِلٌ تَحْتَ فِتْنَةِ الْمَمَاتِ وَفِتْنَةُ الدَّجَّالِ دَاخِلَةٌ تَحْتَ فِتْنَةِ الْمَحْيَا وَأَخْرَجَ الْحَكِيمُ التِّرْمِذِيُّ فِي نَوَادِرِ الْأُصُولِ عَنْ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ أَنَّ الْمَيِّتَ إِذَا سُئِلَ مَنْ رَبُّكَ تَرَاءَى لَهُ الشَّيْطَانُ فَيُشِيرُ إِلَى نَفْسِهِ إِنِّي أَنَا رَبُّكَ فَلِهَذَا وَرَدَ سُؤَالُ التَّثَبُّتِ لَهُ حِينَ يُسْأَلُ ثُمَّ أَخْرَجَ بِسَنَدٍ جَيِّدٍ إِلَى عَمْرِو بْنِ مُرَّةَ كَانُوا يَسْتَحِبُّونَ إِذَا وُضِعَ الْمَيِّتُ فِي الْقَبْرِ أَنْ يَقُولُوا اللَّهُمَّ أَعِذْهُ مِنَ الشَّيْطَانِ قَوْلُهُ وَالْمَغْرَمِ أَيِ الدَّيْنِ يُقَالُ غَرِمَ بِكَسْرِ الرَّاءِ أَيِ ادَّانَ قِيلَ وَالْمُرَادُ بِهِ مَا يُسْتَدَانُ فِيمَا لَا يَجُوزُ وَفِيمَا يَجُوزُ ثُمَّ يَعْجِزُ عَنْ أَدَائِهِ وَيَحْتَمِلُ أَنْ يُرَادَ بِهِ مَا هُوَ أَعَمُّ مِنْ ذَلِكَ وَقَدِ اسْتَعَاذَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ غَلَبَةِ الدَّيْنِ وَقَالَ الْقُرْطُبِيُّ الْمَغْرَمُ الْغُرْمُ وَقَدْ نَبَّهَ فِي الْحَدِيثِ عَلَى الضَّرَرِ اللَّاحِقِ مِنَ الْمَغْرَمِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ قَوْلُهُ فَقَالَ لَهُ قَائِلٌ لَمْ أَقِفْ عَلَى اسْمِهِ ثُمَّ وَجَدْتُ فِي رِوَايَةٍ لِلنَّسَائِيِّ مِنْ طَرِيقِ مَعْمَرٍ عَنِ الزُّهْرِيِّ أَنَّ السَّائِلَ عَنْ ذَلِكَ عَائِشَةُ وَلَفْظُهَا فَقُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا أَكْثَرَ مَا تَسْتَعِيذُ إِلَخْ قَوْلُهُ مَا أَكْثَرَ بِفَتْحِ الرَّاءِ عَلَى التَّعَجُّبِ وقَوْلُهُ إِذَا غَرِمَ بِكَسْرِ الرَّاءِ قَوْلُهُ وَوَعَدَ فَأَخْلَفَ كَذَا لِلْأَكْثَرِ وَفِي رِوَايَةِ الْحَمَوِيِّ وَإِذَا وَعَدَ أَخْلَفَ وَالْمُرَادُ أَنَّ ذَلِكَ شَأْنُ مَنْ يَسْتَدِينُ غَالِبًا قَوْلُهُ وَعَنِ الزُّهْرِيِّ الظَّاهِرُ أَنَّهُ مَعْطُوفٌ عَلَى الْإِسْنَادِ الْمَذْكُورِ فَكَأَنَّ الزُّهْرِيَّ حَدَّثَ بِهِ مُطَوَّلًا وَمُخْتَصَرًا لَكِنْ لَمْ أَرَهُ فِي شَيْءٍ مِنَ الْمَسَانِيدِ وَالْمُسْتَخْرَجَاتِ مِنْ طَرِيقِ شُعَيْبٍ عَنْهُ إِلَّا مُطَوَّلًا وَرَأَيْتُهُ بِاللَّفْظِ الْمُخْتَصَرِ الْمَذْكُورِ سَنَدًا وَمَتْنًا عِنْدَ الْمُصَنِّفِ فِي كِتَابِ الْفِتَنِ مِنْ طَرِيقِ صَالِحِ بْنِ كَيْسَانَ عَنِ الزُّهْرِيِّ وَكَذَلِكَ أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ مِنْ طَرِيقِ صَالِحٍ وَقَدِ اسْتُشْكِلَ دُعَاؤُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِمَا ذُكِرَ مَعَ أَنَّهُ مَعْصُومٌ مَغْفُورٌ لَهُ مَا تَقَدَّمَ وَمَا تَأَخَّرَ وَأُجِيبَ بِأَجْوِبَةٍ أَحَدُهَا أَنَّهُ قَصَدَ التَّعْلِيمَ لِأُمَّتِهِ ثَانِيهَا أَنَّ الْمُرَادَ السُّؤَالُ مِنْهُ لِأُمَّتِهِ فَيَكُونُ الْمَعْنَى هُنَا أَعُوذُ بِكَ لِأُمَّتِي ثَالِثُهَا سُلُوكُ طَرِيقِ التَّوَاضُعِ وَإِظْهَارُ الْعُبُودِيَّةِ وَإِلْزَامُ خَوْفِ اللَّهِ وَإِعْظَامِهِ وَالِافْتِقَارُ إِلَيْهِ وَامْتِثَالُ أَمْرِهِ فِي الرَّغْبَةِ إِلَيْهِ وَلَا يَمْتَنِعُ تَكْرَارُ الطَّلَبِ مَعَ تَحَقُّقِ الْإِجَابَةِ لِأَنَّ ذَلِكَ يُحَصِّلُ الْحَسَنَاتِ وَيَرْفَعُ الدَّرَجَاتِ وَفِيهِ تَحْرِيضٌ لِأُمَّتِهِ عَلَى مُلَازَمَةِ ذَلِكَ لِأَنَّهُ إِذَا كَانَ مَعَ تَحَقُّقِ الْمَغْفِرَةِ لَا يَتْرُكُ التَّضَرُّعَ فَمَنْ لَمْ يَتَحَقَّقْ ذَلِكَ أَحْرَى بِالْمُلَازَمَةِ وَأَمَّا الِاسْتِعَاذَةُ مِنْ فِتْنَةِ الدَّجَّالِ مَعَ تَحَقُّقِهِ أَنَّهُ لَا يُدْرِكُهُ فَلَا إِشْكَالَ فِيهِ عَلَى الْوَجْهَيْنِ الْأَوَّلَيْنِ وَقِيلَ عَلَى الثَّالِثِ يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ قَبْلَ تَحَقُّقِ عَدَمِ إِدْرَاكِهِ وَيَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ فِي الْحَدِيثِ الْآخَرِ عِنْدَ مُسْلِمٍ إِنْ يَخْرُجْ وَأَنَا فِيكُمْ فَأَنَا حَجِيجُهُ الْحَدِيثَ وَاللَّهُ أَعْلَمُ
[834] قَوْلُهُ عَنْ أَبِي الْخَيْرِ هُوَ الْيَزَنِيُّ بِالتَّحْتَانِيَّةِ وَالزَّايِ الْمَفْتُوحَتَيْنِ ثُمَّ نُونٌ وَالْإِسْنَادُ كُلُّهُ سِوَى طَرَفَيْهِ مِصْرِيُّونَ وَفِيهِ تَابِعِيٌّ عَنْ تَابِعِيٍّ وَهُوَ يَزِيدُ عَنْ أَبِي الْخَيْرِ وَصَحَابِيٌّ عَنْ صَحَابِيٍّ وَهُوَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ عَنْ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ هَذِهِ رِوَايَةُ اللَّيْثِ عَنْ يَزِيدَ وَمُقْتَضَاهَا أَنَّ الْحَدِيثَ مِنْ مُسْنَدِ الصِّدِّيقِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَأَوْضَحُ مِنْ ذَلِكَ رِوَايَةُ أَبِي الْوَلِيدِ الطَّيَالِسِيِّ عَنْ اللَّيْثِ فَإِنَّ لَفْظَهُ عَنْ أَبِي بَكْرٍ قَالَ قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَخْرَجَهُ الْبَزَّارُ مِنْ طَرِيقِهِ وَخَالَفَ عَمْرُو بْنُ الْحَارِثِ اللَّيْثَ فَجَعَلَهُ مِنْ مُسْنَدِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو وَلَفظه
الصفحة 319