كتاب فتح الباري لابن حجر (اسم الجزء: 2)

عَنْ قَوْلِهِ فِي نَفْسِ الْحَدِيثِ إِلَّا مَنْ صَنَعَ مِثْلَ مَا صَنَعْتُمْ فَجَعَلَ الْفَضْلَ لِقَائِلِهِ كَائِنًا مَنْ كَانَ وَقَالَ الْقُرْطُبِيُّ تَأَوَّلَ بَعْضُهُمْ قَوْله ذَلِك فضل الله يؤتيه بِأَنْ قَالَ الْإِشَارَةُ رَاجِعَةٌ إِلَى الثَّوَابِ الْمُتَرَتِّبِ عَلَى الْعَمَلِ الَّذِي يَحْصُلُ بِهِ التَّفْضِيلُ عِنْدَ اللَّهِ فَكَأَنَّهُ قَالَ ذَاكَ الثَّوَابُ الَّذِي أَخْبَرْتُكُمْ بِهِ لَا يَسْتَحِقُّهُ أَحَدٌ بِحَسَبِ الذِّكْرِ وَلَا بِحَسَبِ الصَّدَقَةِ وَإِنَّمَا هُوَ بِفَضْلِ اللَّهِ قَالَ وَهَذَا التَّأْوِيلُ فِيهِ بُعْدٌ وَلَكِنِ اضْطَرَّهُ إِلَيْهِ مَا يُعَارِضُهُ وَتُعُقِّبَ بِأَنَّ الْجَمْعَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ مَا يُعَارِضُهُ مُمْكِنٌ مِنْ غَيْرِ احْتِيَاجٍ إِلَى التعسف وَقَالَ بن دَقِيقِ الْعِيدِ ظَاهِرُ الْحَدِيثِ الْقَرِيبُ مِنَ النَّصِّ أَنَّهُ فَضَّلَ الْغَنِيَّ وَبَعْضُ النَّاسِ تَأَوَّلَهُ بِتَأْوِيلٍ مُسْتَكْرَهٍ كَأَنَّهُ يُشِيرُ إِلَى مَا تَقَدَّمَ قَالَ وَالَّذِي يَقْتَضِيهِ النَّظَرُ أَنَّهُمَا إِنْ تَسَاوَيَا وَفُضِّلَتِ الْعِبَادَةُ الْمَالِيَّةُ أَنَّهُ يَكُونُ الْغَنِيُّ أَفْضَلَ وَهَذَا لَا شَكَّ فِيهِ وَإِنَّمَا النَّظَرُ إِذَا تَسَاوَيَا وَانْفَرَدَ كُلٌّ مِنْهُمَا بِمَصْلَحَةِ مَا هُوَ فِيهِ أَيُّهُمَا أَفْضَلُ إِنْ فُسِّرَ الْفَضْلُ بِزِيَادَةِ الثَّوَابِ فَالْقِيَاسُ يَقْتَضِي أَنَّ الْمَصَالِحَ الْمُتَعَدِّيَةَ أَفْضَلُ مِنَ الْقَاصِرَةِ فَيَتَرَجَّحُ الْغَنِيُّ وَإِنْ فُسِّرَ بِالْأَشْرَفِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى صِفَاتِ النَّفْسِ فَالَّذِي يَحْصُلُ لَهَا مِنَ التَّطْهِيرِ بِسَبَبِ الْفَقْرِ أَشْرَفُ فَيَتَرَجَّحُ الْفَقْرُ وَمِنْ ثَمَّ ذَهَبَ جُمْهُورُ الصُّوفِيَّةِ إِلَى تَرْجِيحِ الْفَقِيرِ الصَّابِرِ وَقَالَ الْقُرْطُبِيُّ لِلْعُلَمَاءِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ خَمْسَةُ أَقْوَالٍ ثَالِثُهَا الْأَفْضَلُ الْكَفَافُ رَابِعُهَا يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْأَشْخَاصِ خَامِسُهَا التَّوَقُّفُ وَقَالَ الْكِرْمَانِيُّ قَضِيَّةُ الْحَدِيثِ أَنَّ شَكْوَى الْفَقْرِ تَبْقَى بِحَالِهَا وَأَجَابَ بِأَنَّ مَقْصُودَهُمْ كَانَ تَحْصِيلَ الدَّرَجَاتِ الْعُلَا وَالنَّعِيمِ الْمُقِيمِ لَهُمْ أَيْضًا لَا نَفْيَ الزِّيَادَةِ عَنْ أَهْلِ الدُّثُورِ مُطْلَقًا اه وَالَّذِي يَظْهَرُ أَنَّ مَقْصُودَهُمْ إِنَّمَا كَانَ طَلَبَ الْمُسَاوَاةِ وَيَظْهَرُ أَنَّ الْجَوَابَ وَقَعَ قَبْلَ أَنْ يَعْلَمَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّ مُتَمَنِّيَ الشَّيْءِ يَكُونُ شَرِيكًا لِفَاعِلِهِ فِي الْأَجْرِ كَمَا سَبَقَ فِي كتاب الْعلم فِي الْكَلَام على حَدِيث بن مَسْعُودٍ الَّذِي أَوَّلُهُ لَا حَسَدَ إِلَّا فِي اثْنَتَيْنِ فَإِنَّ فِي رِوَايَةَ التِّرْمِذِيِّ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ التَّصْرِيحَ بِأَنَّ الْمُنْفِقَ وَالْمُتَمَنِّيَ إِذَا كَانَ صَادِقَ النِّيَّةِ فِي الْأَجْرِ سَوَاءٌ وَكَذَا قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَنْ سَنَّ سُنَّةً حَسَنَةً فَلَهُ أَجْرُهَا وَأَجْرُ مَنْ يَعْمَلُ بِهَا مِنْ غَيْرِ أَنْ يَنْقُصَ مِنْ أَجْرِهِ شَيْءٌ فَإِنَّ الْفُقَرَاءَ فِي هَذِهِ الْقِصَّةِ كَانُوا السَّبَبَ فِي تَعَلُّمِ الْأَغْنِيَاءِ الذِّكْرَ الْمَذْكُورَ فَإِذَا اسْتَوَوْا مَعَهُمْ فِي قَوْلِهِ امْتَازَ الْفُقَرَاءُ بِأَجْرِ السَّبَبِ مُضَافًا إِلَى التَّمَنِّي فَلَعَلَّ ذَلِكَ يُقَاوِمُ التَّقَرُّبَ بِالْمَالِ وَتَبْقَى الْمُقَايَسَةُ بَيْنَ صَبْرِ الْفَقِيرِ عَلَى شَظَفِ الْعَيْشِ وَشُكْرِ الْغَنِيِّ عَلَى التَّنَعُّمِ بِالْمَالِ وَمِنْ ثَمَّ وَقَعَ التَّرَدُّدُ فِي تَفْضِيلِ أَحَدِهِمَا عَلَى الْآخَرِ وَسَيَكُونُ لَنَا عَوْدَةٌ إِلَى ذَلِكَ فِي الْكَلَامِ عَلَى حَدِيثِ الطَّاعِمُ الشَّاكِرُ مِثْلُ الصَّائِمِ الصَّابِرِ فِي كِتَابِ الْأَطْعِمَةِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى وَفِي الْحَدِيثِ مِنَ الْفَوَائِدِ غَيْرِ مَا تَقَدَّمَ أَنَّ الْعَالِمَ إِذَا سُئِلَ عَنْ مَسْأَلَةٍ يَقَعُ فِيهَا الْخِلَافُ أَنْ يُجِيبَ بِمَا يَلْحَقُ بِهِ الْمَفْضُولُ دَرَجَةَ الْفَاضِلِ وَلَا يُجِيبُ بِنَفْسِ الْفَاضِلِ لِئَلَّا يَقَعَ الْخِلَافُ كَذَا قَالَ بن بَطَّالٍ وَكَأَنَّهُ أَخَذَهُ مِنْ كَوْنِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَجَابَ بِقَوْلِهِ أَلَا أَدُلُّكُمْ عَلَى أَمْرٍ تُسَاوُونَهُمْ فِيهِ وَعَدَلَ عَنْ قَوْلِهِ نَعَمْ هُمْ أَفْضَلُ مِنْكُمْ بِذَلِكَ وَفِيهِ التَّوْسِعَةُ فِي الْغِبْطَةِ وَقَدْ تَقَدَّمَ تَفْسِيرُهَا فِي كِتَابِ الْعِلْمِ وَالْفَرْقُ بَيْنَهَا وَبَيْنَ الْحَسَدِ الْمَذْمُومِ وَفِيهِ الْمُسَابَقَةُ إِلَى الْأَعْمَالِ الْمُحَصِّلَةِ لِلدَّرَجَاتِ الْعَالِيَةِ لِمُبَادَرَةِ الْأَغْنِيَاءِ إِلَى الْعَمَلِ بِمَا بَلَغَهُمْ وَلَمْ يُنْكِرْ عَلَيْهِمْ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَيُؤْخَذُ مِنْهُ أَنَّ قَوْلَهُ إِلَّا مَنْ عَمِلَ عَامٌّ لِلْفُقَرَاءِ وَالْأَغْنِيَاءِ خِلَافًا لِمَنْ أَوَّلَهُ بِغَيْرِ ذَلِكَ وَفِيهِ أَنَّ الْعَمَلَ السَّهْلَ قَدْ يُدْرِكُ بِهِ صَاحِبُهُ فَضْلَ الْعَمَلِ الشَّاقِّ وَفِيهِ فَضْلُ الذِّكْرِ عَقِبَ الصَّلَوَاتِ وَاسْتَدَلَّ بِهِ الْبُخَارِيُّ عَلَى فَضْلِ الدُّعَاءِ عُقَيْبَ الصَّلَاةِ كَمَا سَيَأْتِي فِي الدَّعَوَاتِ لِأَنَّهُ فِي مَعْنَاهَا وَلِأَنَّهَا أَوْقَاتٌ فَاضِلَةٌ يُرْتَجَى فِيهَا إِجَابَةُ الدُّعَاءِ وَفِيهِ أَنَّ الْعَمَلَ الْقَاصِرَ قَدْ يُسَاوِي الْمُتَعَدِّيَ خِلَافًا لِمَنْ قَالَ إِنَّ الْمُتَعَدِّيَ أَفْضَلُ مُطْلَقًا نَبَّهَ عَلَى ذَلِكَ الشَّيْخُ عِزُّ الدِّينِ بْنُ عَبْدِ السَّلَامِ

[844] قَوْلُهُ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ هُوَ الثَّوْرِيُّ وَرِجَالُ الْإِسْنَادِ كُلُّهُمْ كُوفِيُّونَ إِلَّا مُحَمَّدَ بْنَ يُوسُفَ وَهُوَ الْفِرْيَابِيُّ قَوْلُهُ عَنْ وَرَّادٍ فِي رِوَايَةِ مُعْتَمِرِ بْنِ سُلَيْمَانَ عَنْ سُفْيَانَ عِنْدَ الْإِسْمَاعِيلِيِّ حَدَّثَنِي

الصفحة 331