كتاب معاني القرآن للفراء (اسم الجزء: 2)

(بَيْنَ) فِي موضع رفع وهي منصوبة. فمن رفعها جعلها بمنزلة قوله (لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ) وقوله: وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ [20] نصبت الظن بوقوع التصديق عَلَيْهِ. ومعناهُ أَنَّهُ قَالَ (فَبِعِزَّتِكَ «1» لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ إِلَّا عِبادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ) قَالَ الله: صدّق عليهم ظنّه لأنه إنما قاله بظنّ لا بعلم. وتقرأ (وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ) نصبت الظن عَلَى قوله: ولقد صَدَق عليهم فِي ظنه. ولو قلت: ولقد صدق عليهم إبليس ظنُّه ترفع إبليس والظن كَانَ صوابًا عَلَى التكرير: صدق عليهم ظنّه، كما قال (يَسْئَلُونَكَ «2» عَنِ الشَّهْرِ الْحَرامِ قِتالٍ فِيهِ) يريد: عَن قتال فِيهِ، وكما قَالَ (ثُمَّ «3» عَمُوا وَصَمُّوا كَثِيرٌ مِنْهُمْ) ولو قرأ قارئ ولقد صدق عليهم إبليس ظنُّه يريد:
صدقه ظنُّه عليهم كما تَقُولُ صدقك ظنّك والظنّ يخطىء ويُصيب.
وقوله: وَما كانَ لَهُ عَلَيْهِمْ مِنْ سُلْطانٍ [21] يُضلّهم بِهِ حُجّة، إلا أنا سلَّطناهُ عليهم لنعلم من يؤمن بالآخرة.
فإن قَالَ قائل: إن الله يعلم أمرهم بتسليط إبليس وبغير تسليطه. قلت: مثل هَذَا كَثِير فِي القرآن. قَالَ الله (وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ «4» حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ) وهو يعلم المجاهد والصابر بغير ابتلاء، ففيه وجهان. أحدهما أن العرب تشترط للجاهل إِذَا كلمته بشبه هَذَا شرطًا تُسنده إلى أنفسها وهي عالمة ومخرج الكلام كأنه لمن لا يعلم. من ذَلِكَ أن يقول القائل:
النار تُحرق الحطب فيقول الجاهل: بَلِ الحطب يُحرق النار، ويقول العالم: سنأتي بحطب ونار لنعلم أيّهما يأكل صاحبه فهذا وجهٌ بَيّن. والوجه/ 153 االآخر أن تقول (لَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ) معناهُ: حَتَّى نعلم عندكم «5» فكأن الفعل لَهُم فِي الأصل. ومثله مما يدلك عَلَيْهِ قوله (وَهُوَ الَّذِي «6» يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ)
__________
(1) الآيتان 82، 83 سورة ص
(2) الآية 217 سورة البقرة.
(3) الآية 71 سورة المائدة.
(4) الآية 31 سورة محمد.
(5) أي فى المتعارف عندكم أن العلم يكون بوسيلة تؤدى إليه. [.....]
(6) الآية 27 سورة الروم.

الصفحة 360