كتاب شرح القسطلاني = إرشاد الساري لشرح صحيح البخاري (اسم الجزء: 2)

فيها. وليست أو للشك بل للتنويع، وفيه أن كل واحد من البرد والمطر عدر بانفراده. لكن في رواية: كان يأمر المؤذن إذا كانت ليلة باردة ذات مطر يقول: ألا صلوا في الرحال. فلم يقل في سفر. وفي بعض طرق الحديث عند أبي داود: ونادى منادي رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- في المدينة في الليلة المطيرة والغداة القرّة، فصرّح بأن ذلك في المدينة ليس في سفر. فيحتمل أن يقال لما كان السفر لا يتأكد فيه الجماعة، ويشق الاجتماع لأجلها، اكتفى فيه بأحدهما، بخلاف الحضر فإن المشقة فيه أخفّ، والجماعة فيه آكد، وظاهره التخصيص بالليل فقط دون النهار، وإليه ذهب الأصحاب في الريح فقط دون المطر والبرد، فقالوا في المطر والبرد: إن كلاًّ منهما عذر في الليل والنهار، وفي الريح العاصفة عذر في الليل فقط، جزم به الرافعي والنووي.
فإن قلت: في حديث ابن عباس السابق في باب الكلام في الأذان: فلما بلغ المؤذن: حيّ على الصلاة فأمره أن ينادي: الصلاة في الرحال. وهو يقتضي أن ذلك يقال بدلاً عن الحيعلة، وظاهر الحديث هنا أنه بعد الفراغ من الأذان، فما الجمع بينهما؟ أجيب بجواز الأمرين كما نص عليه الشافعي في الأم، لأمره -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بكلٍّ منهما، ويكون المراد من قوله: الصلاة في الرحال، الرخصة لمن أرادها، وهلموا إلى الصلاة الندب لمن أراد استكمال الفضيلة ولو تحمل المشقّة.
وفي حديث جابر المروي في مسلم ما يؤيد ذلك ولفظه: خرجنا مع رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- في سفر فمطرنا، فقال: ليصلّ من شاء منكم في رحله. وقد تبين بقوله: من شاء. أن أمره عليه الصلاة والسلام بقوله: ألا صلوا في الرحال، ليس أمر عزيمة حتى لا يشرع لهم الخروج إلى الجماعة، إنما هو راجع إلى مشيئتهم، فمن شاء صلّى في رحله ومن شاء خرج إلى الجماعة.

633 - حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ قَالَ: أَخْبَرَنَا جَعْفَرُ بْنُ عَوْنٍ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو الْعُمَيْسِ عَنْ عَوْنِ بْنِ أَبِي جُحَيْفَةَ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: "رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بِالأَبْطَحِ، فَجَاءَهُ بِلاَلٌ فَآذَنَهُ بِالصَّلاَةِ، ثُمَّ خَرَجَ بِلاَلٌ بِالْعَنَزَةِ حَتَّى رَكَزَهَا بَيْنَ يَدَىْ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بِالأَبْطَحِ، وَأَقَامَ الصَّلاَةَ".
وبه قال: (حدّثنا إسحاق) وفي رواية: إسحاق بن منصور، وجزم به خلف في الأطراف له (قال: أخبرنا جعفر بن عون) بفتح العين المهملة وإسكان الواو (قال: حدّثنا أبو العميس) بضم العين المهملة وفتح الميم آخره سين مهملة مصغرًا (عن عون بن أبي جحيفة) بتقديم الجيم المضمومة على المهملة المفتوحة (عن أبيه) أبي جحيفة وهب بن عبد الله السوائي رضي الله عنه (قال: رأيت رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-) حال كونه (بالأبطح) مكان بظاهر مكة معروف (فجاءه بلال) المؤذن (فأذنه) بالمدّ، أي أعلمه (بالصلاة، ثم خرج بلال) ولأبي الوقت ثم أخرج (بالعنزة) بفتح النون أطول من العصا، وهمزة أخرج بالضم مبنيًّا للمفعول (حتى ركزها بين يدي رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بالأبطح) سترة (وأقام) بلال (الصلاة).

19 - باب هَلْ يَتَتَبَّعُ الْمُؤَذِّنُ فَاهُ هَا هُنَا وَهَا هُنَا، وَهَلْ يَلْتَفِتُ فِي الأَذَانِ؟
وَيُذْكَرُ عَنْ بِلاَلٍ أَنَّهُ جَعَلَ إِصْبَعَيْهِ فِي أُذُنَيْهِ. وَكَانَ ابْنُ عُمَرَ لاَ يَجْعَلُ إِصْبَعَيْهِ فِي أُذُنَيْهِ.
وَقَالَ إِبْرَاهِيمُ: لاَ بَأْسَ أَنْ يُؤَذِّنَ عَلَى غَيْرِ وُضُوءٍ. وَقَالَ عَطَاءٌ: الْوُضُوءُ حَقٌّ وَسُنَّةٌ.
وَقَالَتْ عَائِشَةُ كَانَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَذْكُرُ اللَّهَ عَلَى كُلِّ أَحْيَانِهِ.
هذا (باب) بالتنوين (هل يتتبع المؤذن فاه) بالمثناة التحتية والمثناتين الفوقيتين، والموحدة المشددة المفتوحات، من التتبّع وللأصيلي يتبع بضم أوله وإسكان المثناة الفوقية وكسر الموحدة من الإتباع.
والمؤذن فاعل، وفاه مفعوله (هاهنا وهاهنا) أي جهتي اليمين والشمال. وعند أبي عوانة في صحيحه من رواية عبد الرحمن بن مهدي، فجعل يتتبع بفيه يمينًا وشمالاً وأعرب البرماوي كالكرماني المؤذن بالنصب وفاه بدلاً منه، والفاعل الشخص مقدّرًا قال: ليطابق قوله في الحديث: أتتبع فاه انتهى.
وتعقب بأن فيه من التكلف ما لا يخفى، وليست المطابقة بلازمة، وجعل غير اللازم لازمًا لا يخفى ما فيه (وهل يلتفت) المؤذن برأسه (في الأذان) يمينًا وشمالاً، أي في حيعلتيه.
(ويذكر) بضم الياء وفتح الكاف بصيغة التمريض، فيما رواه عبد الرزاق وغيره عن سفيان (عن بلال) المؤذن (أنه جعل) أنملتي (إصبعيه) مسبحتيه (في) صماخي (أذنيه) ليعينه ذلك على زيادة رفع صوته، أو ليكون علامة للمؤذن ليعرف مَن يراه على بعد، أو كان به صمم أنه يؤذن.
ورواه أبو داود، ولفظ ابن ماجة من حديث سعد القرظ، أنه -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: أمر بلالاً أن يجعل إصبعيه في أُذنيه. لكن في إسناده ضعف، وهو عند أبي عوانة عن مؤمل عن سفيان وله شواهد.

(وكان ابن عمر) بن الخطاب مما رواه عبد الرزاق وابن أبي شيبة من طريق نسير بالنون والمهملة مصغرًا ابن ذعلوق، بالذال المعجمة المضمومة وسكون العين المهملة وضم اللام، عنه

الصفحة 18