كتاب قواعد الأحكام في مصالح الأنام (اسم الجزء: 2)

الظُّهُورَ الْمُسْتَفَادَ مِنْ أَيْمَانِ اللِّعَانِ، وَأَكَّدْنَا ذَلِكَ بِدُعَائِهِ عَلَى نَفْسِهِ بِاللَّعْنِ الَّذِي لَا يَقْدُمُ عَلَيْهِ غَالِبًا إلَّا صَادِقٌ فِي قَوْلِهِ، فَإِذَا تَمَّ لِعَانُهُ فَقَدْ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي حَدِّ الْمَرْأَةِ بِهَذِهِ الْحُجَّةِ، فَذَهَبَ إلَى أَنَّهَا لَا تُحَدُّ لِضَعْفِ هَذِهِ الْحُجَّةِ وَرَأْيُ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّهَا تُحَدُّ بِهَذِهِ الْحُجَّةِ عَمَلًا بِقَوْلِهِ - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَيَدْرَأُ عَنْهَا الْعَذَابَ أَنْ تَشْهَدَ أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ} [النور: 8] حَمْلًا لِلْعَذَابِ عَلَى الْجَلْدِ الْمَذْكُورِ فِي قَوْلِهِ: {وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} [النور: 2] ، وَفَرَّقَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - بَيْنَ هَذَا وَبَيْنَ الْقَوَدِ بِالْقَسَامَةِ؛ لِأَنَّ الْمَرْأَةَ قَادِرَةٌ عَلَى دَرْءِ الْحَدِّ بِاللِّعَانِ، بِخِلَافِ الْقِصَاصِ فَإِنَّ الْمُقْتَصَّ مِنْهُ لَا يَقْدِرُ عَلَى دَرْئِهِ.
وَأَمَّا قَبُولُ قَوْلِ الْمُدَّعِي لِإِقَامَةِ مَصْلَحَةٍ عَامَّةٍ فَلَهُ أَمْثِلَةٌ: أَحَدُهَا: قَبُولُ قَوْلِ الْأُمَنَاءِ فِي تَلَفِ الْأَمَانَةِ لَوْ لَمْ يَشْرَعْ لِزُهْدِ الْأُمَنَاءِ فِي قَبُولِ الْأَمَانَاتِ وَلَفَاتَتْ الْمَصَالِحُ الْمَبْنِيَّةُ عَلَى حِفْظِ الْأَمَانَاتِ.
الْمِثَالُ الثَّانِي: قَبُولُ قَوْلِ الْحُكَّامِ فِيمَا يَدَّعُونَهُ مِنْ الْجَرْحِ وَالتَّعْدِيلِ، وَغَيْرِهَا مِنْ الْأَحْكَامِ لَوْ لَمْ يُقْبَلْ لَفَاتَتْ مَصَالِحُ تِلْكَ الْأَحْكَامِ لِرَغْبَةِ الْحُكَّامِ عَنْ وِلَايَةِ الْأَحْكَامِ.
الْمِثَالُ الثَّالِثُ: قَبُولُ قَوْلِ الْمُدَّعِي رَدَّ الْأَمَانَةِ عَلَى مُسْتَحَقِّهَا وَلِلْأَمِينِ فِي ذَلِكَ حَالَانِ: أَحَدُهُمَا أَنْ يَكُونَ أَمِينًا مِنْ قِبَلِ الشَّرْعِ كَالْوَصِيِّ يَدَّعِي رَدَّ الْمَالِ عَلَى الْيَتِيمِ، وَكَذَلِكَ مَنْ كَانَتْ عِنْدَهُ أَمَانَةٌ شَرْعِيَّةٌ فَادَّعَى رَدَّهَا عَلَى مَالِكِهَا الَّذِي لَمْ يَأْتَمِنْهُ عَلَيْهَا فَلَا يُقْبَلُ قَوْلُهُ فِي ذَلِكَ لِتَيَسُّرِ الْإِشْهَادِ عَلَى الرَّدِّ فَإِذَا فَرَّطَ فِي الْإِشْهَادِ لَمْ نُخَالِفْ الْقَوَاعِدَ وَالْأُصُولَ؛ لِأَجْلِ تَفْرِيطِهِ.
وَأَمَّا مَا يُقْبَلُ فِي قَوْلِ الْمُدَّعِي لِرَفْعِ ضَرُورَةٍ خَاصَّةٍ: فَكَالْغَاصِبِ يَدَّعِي تَلَفَ الْمَغْصُوبِ فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ مَعَ يَمِينِهِ؛ لِأَنَّا لَوْ رَدَدْنَا قَوْلَهُ لَأَدَّى إلَى أَنْ نُخَلِّدَهُ فِي الْحَبْسِ إلَى مَوْتِهِ، وَيَجِبُ طَرْدُ هَذَا فِي كُلِّ يَدٍ ضَامِنَةٍ كَيَدِ الْمُسْتَعِيرِ.

الصفحة 35