كتاب تيسير التحرير شرح كتاب التحرير في أصول الفقه (اسم الجزء: 2)

أَيَّام بلياليها، وَإِن كَانَ الْقيَاس أَن لَا يثبت قبلهَا إِلَّا بعد مضيها: لِأَن حكم الْعلَّة لَا يثبت قبلهَا. يرد عَلَيْهِ أَن حَقِيقَة السّفر على مَا ذكر فِي تَعْرِيفه إِنَّمَا هُوَ الْخُرُوج عَن مَحل الْإِقَامَة بِقصد السّير الْمَذْكُور، وَهُوَ يتَحَقَّق قبل الامتداد الْمَذْكُور. وَقد يُجَاب عَنهُ بِأَن الْفُقَهَاء قصدُوا بِهِ تَعْرِيف مَا يَتَرَتَّب عَلَيْهِ أَحْكَام السّفر، لَا بَيَان حَقِيقَته، وَحَقِيقَته إِنَّمَا هِيَ الْقطع للمسافة الْمَذْكُورَة مَعَ الْقَصْد الْمَذْكُور وَيُؤَيِّدهُ مَا ذكر من أَنه فِي اللُّغَة قطع الْمسَافَة (غير أَنه) أَي الْمُسَافِر (لَو أَقَامَ) أَي نوى الْإِقَامَة (قبلهَا) أَي قبل ثَلَاثَة أَيَّام (صَحَّ) مقَامه (ولزمت أَحْكَام الْإِقَامَة وَلَو) كَانَ (فِي الْمَفَازَة لِأَنَّهُ) أَي الْمقَام قبلهَا (دفع لَهُ) أَي للسَّفر قبل تحَققه فتعود الْإِقَامَة قبلهَا (وَبعدهَا) أَي بعد ثَلَاثَة أَيَّام (لَا) يَصح مقَامه (إِلَّا فِيمَا يَصح فِيهِ) الْمقَام من مصر أَو قَرْيَة (لِأَنَّهُ) أَي الْمقَام بعْدهَا (رفع بعد تحَققه) أَي السّفر، فنية الْإِقَامَة حِينَئِذٍ ابْتِدَاء إِيجَاب: فَلَا تصح فِي غير مَحَله، وَهَذَا مَا قيل: من أَن الدّفع أسهل من الرّفْع (وَلَا يمْنَع سفر الْمعْصِيَة) من قطع طَرِيق أَو غَيره: أَي لَا يمْنَع كَونه مَعْصِيّة (الرُّخْصَة) عِنْد أَصْحَابنَا. وَقَالَ الْأَئِمَّة الثَّلَاثَة يمْنَع لِأَن الرُّخْصَة نعْمَة فَلَا تنَال بالمعصية، فَيجْعَل السّفر مَعْدُوما فِي حَقّهَا كالسكر فِي حق الرُّخْصَة الْمُتَعَلّقَة بِزَوَال الْعقل لِأَنَّهُ مَعْصِيّة، وَلقَوْله تَعَالَى - {فَمن اضْطر غير بَاغ وَلَا عَاد فَلَا إِثْم عَلَيْهِ} - أناط رخصَة أكل الْميتَة بالاضطرار بِشَرْط كَونه غير بَاغ: أَي خَارج على الإِمَام، وَلَا عَاد: أَي ظَالِم للْمُسلمين بِقطع الطَّرِيق، فَيبقى فِي غير هَذِه الْحَالة على أصل الْحُرْمَة: فَكَذَا فِي سَائِر الرُّخص بِالْقِيَاسِ أَو بِدلَالَة النَّص، أَو بِالْإِجْمَاع على عدم الْفَصْل ولأصحابنا إِطْلَاق نُصُوص الرُّخص لقَوْله تَعَالَى - {فَمن كَانَ مِنْكُم مَرِيضا أَو على سفر فَعدَّة من أَيَّام أخر} -. وَمَا عَن ابْن عَبَّاس رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا " فرض الله الصَّلَاة على لِسَان نَبِيكُم فِي الْحَضَر أَربع رَكْعَات، وَفِي السّفر رَكْعَتَيْنِ ": إِلَى غير ذَلِك، وَلَا نسلم أَن فِيهِ جعل الْمعْصِيَة سَببا للرخصة (لِأَنَّهَا) أَي الْمعْصِيَة (لَيست إِيَّاه) أَي السّفر، بل هُوَ مُنْفَصِل عَنْهَا: إِذْ كل مِنْهُمَا يُوجد بِدُونِ الآخر، وَالسّفر هُوَ السَّبَب: نعم هِيَ مجاورة لَهُ، وَذَلِكَ غير مَانع من اعْتِبَاره شرعا كَالصَّلَاةِ فِي الأَرْض الْمَغْصُوبَة وَالْمسح على خف مَغْصُوب (بِخِلَاف السَّبَب الْمعْصِيَة كالسكر بِشرب الْمُسكر) الْمحرم فَإِنَّهُ حدث عَن مَعْصِيّة فَلَا يناط بِهِ الرُّخْصَة، لِأَن سَبَب الرُّخْصَة لَا بُد أَن يكون مُبَاحا، وَنَفس السّفر مُبَاح وَإِن جاوره مَعْصِيّة (وَقَوله تَعَالَى {غير بَاغ وَلَا عَاد}: أَي فِي الْأكل) لِأَن الْإِثْم وَعَدَمه لَا يتَعَلَّق بِنَفس الأضطرار بل بِالْأَكْلِ، فَلَا بُد من تَقْدِير فعل عَامل: أَي فَمن اضْطر وَأكل حَال كَونه غير بَاغ وَلَا عَاد فِي الْأكل الَّتِي سيقت الْآيَة لتحريمه وحله: أَي غير متجاوز فِي الْأكل قدر الْحَاجة على أَن عَاد للتَّأْكِيد، أَو الْمَعْنى غير طَالب الْمحرم وَهُوَ يجد غَيره، وَلَا مجاوز قدر مَا يسد الرمق وَيدْفَع الْهَلَاك أَو غير متلذذ، وَلَا مُتَرَدّد، أَو غير بَاغ على مُضْطَر آخر بالاستئثار عَلَيْهِ وَلَا مجاوز

الصفحة 304