كتاب لوامع الأنوار البهية (اسم الجزء: 2)

تَفَاوُتِ الْعُقُولِ فِي نَفْسِهَا، وَالْعُقُولُ جَمْعُ عَقْلٍ وَهُوَ لُغَةً الْمَنْعُ سُمِّيَ بِهِ لِمَنْعِهِ صَاحِبَهُ مِنَ الرَّذَائِلِ وَالْقَبَائِحِ، وَلِذَا لَا يُطْلَقُ عَلَيْهِ تَعَالَى الْعَاقِلُ، وَاصْطِلَاحًا مَا يَحْصُلُ بِهِ الْمَيْزُ بَيْنَ الْمَعْلُومَاتِ، وَعَنِ الْإِمَامِ الشَّافِعِيِّ أَنَّهُ قَالَ: الْعَقْلُ آلَةُ التَّمْيِيزِ وَالْإِدْرَاكِ. وَهُوَ غَرِيزَةٌ، قَالَهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَقَالَ الْحَارِثُ الْمُحَاسَبِيُّ: لَيْسَ مُكْتَسَبًا بَلْ خَلَقَهُ اللَّهُ تَعَالَى يُفَارِقُ بِهِ بَيْنَ الْإِنْسَانِ وَالْبَهِيمَةِ، وَيَسْتَعِدُّ بِهِ لِقَبُولِ الْعِلْمِ وَتَدْبِيرِ الصَّنَائِعِ الْفِكْرِيَّةِ، فَكَأَنَّهُ نُورٌ يُقْذَفُ فِي الْقَلْبِ كَالْعِلْمِ الضَّرُورِيِّ، وَالصِّبَا وَنَحْوُهُ حِجَابٌ لَهُ، قَالَ الْقَاضِي وَغَيْرُهُ: إِنَّهُ غَيْرُ مُكْتَسَبٍ كَالضَّرُورِيِّ، وَقَالَ الْبَرْبَهَارِيُّ مِنْ أَصْحَابِنَا: لَيْسَ الْعَقْلُ بِجَوْهَرٍ وَلَا عَرَضٍ وَلَا اكْتِسَابٍ، وَإِنَّمَا هُوَ فَضْلٌ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى. قَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ ابْنُ تَيْمِيَّةَ - قَدَّسَ اللَّهُ رُوحَهُ -: وَهَذَا يَقْتَضِي أَنَّهُ الْقُوَّةُ الْمُدْرِكَةُ كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ كَلَامُ الْإِمَامِ أَحْمَدَ لَا الْإِدْرَاكُ، وَهُوَ بَعْضُ الْعُلُومِ الضَّرُورِيَّةِ عِنْدَ أَصْحَابِنَا، وَالْأَكْثَرُ يَسْتَعِدُّ بِهَا لِفَهْمِ دَقَائِقِ الْعُلُومِ وَتَدْبِيرِ الصَّنَائِعِ الْفِكْرِيَّةِ، وَقَالَهُ أَبُو بَكْرٍ الْبَاقِلَّانِيُّ وَابْنُ الصَّبَّاغِ وَغَيْرُهُمَا، فَخَرَجَتِ الْعُلُومُ الْكَسْبِيَّةُ، لِأَنَّ الْعَاقِلَ يَتَّصِفُ بِكَوْنِهِ عَاقِلًا مَعَ انْتِفَاءِ الْعُلُومِ النَّظَرِيَّةِ، وَإِنَّمَا قَالُوا بَعْضَ الْعُلُومِ الضَّرُورِيَّةِ لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ جَمِيعَهَا لَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ الْفَاقِدُ لِلْعِلْمِ بِالْمُدْرَكَاتِ غَيْرَ عَاقِلٍ لِعَدَمِ الْإِدْرَاكِ الْمُعَلَّقِ عَلَيْهَا، وَالْمُشَاهَدُ خِلَافُهُ، وَمَحَلُّ الْعَقْلِ الْقَلْبُ عِنْدَنَا وَعِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْأَطِبَّاءِ وَلَهُ اتِّصَالٌ بِالدِّمَاغِ، وَرُوِيَ عَنِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ أَنَّ مَحَلَّهُ الدِّمَاغُ وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَالطُّوفِيِّ مِنْ أَصْحَابِنَا، وَقِيلَ فِي الدِّمَاغِ إِنْ قُلْنَا إِنَّهُ جَوْهَرٌ وَإِلَّا فَفِي الْقَلْبِ. وَالصَّحِيحُ أَنَّ الْعَقْلَ يَخْتَلِفُ كَالْمُدْرَكِ بِهِ، وَقَالَ الْإِمَامُ ابْنُ عَقِيلٍ مِنْ عُلَمَائِنَا وَالْأَشَاعِرَةُ وَالْمُعْتَزِلَةُ: الْعَقْلُ لَا يَخْتَلِفُ لِأَنَّهُ حُجَّةٌ عَامَّةٌ يَرْجِعُ إِلَيْهِ النَّاسُ عِنْدَ اخْتِلَافِهِمْ، وَلَوْ تَفَاوَتَتِ الْعُقُولُ لَمَا كَانَ كَذَلِكَ.
وَقَالَ غَيْرُ وَاحِدٍ: الْعَقْلُ عَقْلَانِ غَرِيزِيٌّ وَتَجْرِيبِيٌّ مُكْتَسَبٌ، فَالْعَقْلُ الْغَرِيزِيُّ لَا يَخْتَلِفُ، وَأَمَّا الْكَسْبِيُّ فَيَخْتَلِفُ. وَحَمَلَ الْعَلَّامَةُ الطُّوفِيُّ الْخِلَافَ عَلَى ذَلِكَ. قَوْلُهُ ((فِي الْعِيَانِ)) أَيِ الْمُشَاهَدَةِ وَبَادِئِ النَّظَرِ لِذَوِي الْعِرْفَانِ ((مَحْصُورَةٌ)) فِي شَيْئَيْنِ لَا ثَالِثَ لَهُمَا أَيْ مَحْبُوسَةٌ وَمَمْنُوعَةٌ فِيهِمَا وَمَقْصُورَةٌ عَلَيْهِمَا لَا تَتَجَاوَزْهُمَا ((فِي الْحَدِّ)) ، وَيَأْتِي الْكَلَامُ عَنْهُ قَرِيبًا ((وَ)) فِي ((الْبُرْهَانِ)) هُوَ الْحُجَّةُ

الصفحة 437