كتاب التفسير الوسيط لطنطاوي (اسم الجزء: 2)

وقد ذكر العلماء حكما كثيرة لنزول القرآن منجما منها: تثبيت فؤاد النبي صلّى الله عليه وسلّم وتقوية قلبه، ومنها: التدرج في تربية قويمة سليمة، ومنها: مسايرة الحوادث في تجددها وتفرقها. ومنها تيسير حفظه وتسهيل فهمه، ومنها: تثبيت قلوب المؤمنين وتسليحهم بعزيمة الصبر واليقين ومنها:
الإجابة على أسئلة السائلين، وبيان حكم الله- تعالى- فيها يحصل من قضايا، ولفت أنظار المخلصين إلى ما وقعوا فيه من أخطاء، وكشف حال الكافرين والمنافقين. ومنه: الإرشاد إلى مصدر القرآن وأنه من عند الله- تعالى- وَلَوْ كانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً. فأنت تقرأ ما نزل على الرسول صلّى الله عليه وسلّم من قرآن في مكة. وما نزل عليه في المدينة، فترى الجميع محكم السرد. دقيق السبك، رصين الأسلوب، بليغ التراكيب، فصيح الألفاظ.. بينما ترى كلام الأدباء والبلغاء يختلف في جودته من وقت إلى وقت «ومن موضوع إلى موضوع» «1» .
وقد بين- سبحانه- أن هذا القرآن قد نزل مقترنا بأمرين متصلا بهما:
أما أولهما فهو قوله: بِالْحَقِّ.
وأما ثانيهما فهو قوله: مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ أى: أن الله- عز وجل- الذي لا إله إلا هو، والذي هو الحي القيوم، هو الذي نزل عليك يا محمد هذا القرآن تنزيلا ملتبسا بالحق، ومصاحبا له، ومقترنا به، ومشتملا عليه، فكل ما فيه من أوامر، ونواه، وقصص، وأحكام، وعقائد، وآداب، وشرائع وأخبار.. حق لا يحوم حوله باطل، وصدق لا يتطرق إليه كذب.
وهو الذي جعل هذا الكتاب المنزل عليك موافقا ومؤيدا لما اشتملت عليه الكتب السابقة من الدعوة إلى وحدانية الله، وإلى مكارم الأخلاق، وإلى الوصايا والشرائع التي تسعد الناس في كل زمان ومكان. وهذا يدل على أن الشرائع الإلهية واحدة في جوهرها وأصولها. قال- تعالى-: شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ ما وَصَّى بِهِ نُوحاً وَالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ وَما وَصَّيْنا بِهِ إِبْراهِيمَ وَمُوسى وَعِيسى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ
«2» .
وقوله بِالْحَقِّ متعلق بمحذوف فيكون في محل نصب على الحال من الكتاب. وقوله مُصَدِّقاً حال مؤكدة من الكتاب. أى نزله في حال تصديقه الكتب.
وفائدة تقييد التنزيل بهذه الحال حث أهل الكتاب على الإيمان بالمنزل، وتنبيههم على وجوبه فإن الإيمان بالمصدق يوجب الإيمان بما يصدقه حتما.
__________
(1) إن شئت المزيد من المعرفة عن الحكم والأسرار في تنجيم القرآن فراجع- على سبيل المثال- كتاب «مناهل العرفان في علوم القرآن» ج 1 ص 46 إلى 56 لفضيلة أستاذنا المرحوم الشيخ محمد عبد العظيم الزرقانى.
(2) سورة الشورى آية 13

الصفحة 20