كتاب التفسير الوسيط لطنطاوي (اسم الجزء: 2)

هذا، وجمهور العلماء على أن الغال يأتى بما غله يوم القيامة بعينه على سبيل الحقيقة لأن ظواهر النصوص من الكتاب والسنة نؤيد ذلك. ولأنه لا موجب لصرف الألفاظ عن ظواهرها.
ومن العلماء من جعل الإتيان بالغلول يوم القيامة مجاز عن الإتيان بإثمه تعبيرا بما غل عما لزمه من الإثم مجازا.
قال الفخر الرازي: «واعلم أن هذا التأويل- المجازى- يحتمل، إلا أن الأصل المعتبر في علم القرآن أنه يجب إجراء اللفظ على الحقيقة إلا إذا قام دليل يمنع منه. وهنا لا مانع من هذا الظاهر فوجب إثباته» «1» .
ومن المفسرين الذين حملوا الإتيان على ظاهره الإمام القرطبي فقد قال عند تفسيره لقوله- تعالى- وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِما غَلَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ أى يأتى به حاملا له على ظهره ورقبته معذبا بحمله وثقله ومرعوبا بصوته، وموبخا بإظهار خيانته على رءوس الاشهاد.
وقال بعد إيراده للحديث السابق الذي رواه مسلم عن أبى هريرة: قيل الخبر محمول على شهرة الأمر. أى يأتى يوم القيامة قد شهر الله أمره كما يشهر لو حمل بعيرا له رغاء أو فرسا له حمحمة.
قلت: وهذا عدول عن الحقيقة إلى المجاز والتشبيه، وإذا دار الكلام بين الحقيقة والمجاز فالحقيقة الأصل- كما في كتب الأصول- وقد أخبر النبي صلّى الله عليه وسلّم بالحقيقة ولا عطر بعد عروس» «2» .
ثم نبه- سبحانه- على العقوبة التي ستحل بالخائن، بعد أن بين ما سيناله من فضيحة وخزي فقال: ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ ما كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ.
أى: ثم تعطى كل نفس يوم القيامة جزاء ما كسبت من خير أو شر وافيا تاما، وهم لا يظلمون شيئا، لأن الحاكم بينهم هو ربك الذي لا يظلم أحدا.
وهذه الجملة معطوفة على ما قبلها وقوله وَمَنْ يَغْلُلْ وجاء العطف بثم المفيدة للتراخي، للإشعار بالتفاوت الشديد بين حمله ما غل وبين جزائه وسوء عاقبته يوم القيامة.
وقال- سبحانه- ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ.. بصيغة العموم، ولم يقل ثم يوفى الغال مثلا- لأن من فوائد ذكر هذا الجزاء بصيغة العموم، الإعلام والإخبار للغال وغيره من جميع الكاسبين
__________
(1) تفسير الفخر الرازي ج 9 ص 73.
(2) تفسير القرطبي ج 4 ص 257.

الصفحة 322