كتاب التفسير الوسيط لطنطاوي (اسم الجزء: 2)

انْظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنا بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ، وَلَلْآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلًا «1» . والذي نراه أن عودة الضمير «هم» على الفريقين أقرب إلى الحق، لأن تفاوت الدرجات موجود بين الأخيار كما أن تفاوت العقوبات موجود بين الأشرار، فالذين أدوا جميع ما كلفهم الله به من طاعات ليسوا كالذين اكتفوا بأداء الفرائض. والذين انحدروا في المعاصي إلى النهاية ليسوا كالذين وقعوا في بعضها.
وقوله عِنْدَ اللَّهِ أى في حكمه وعلمه وهو تشريف لهم والظرف متعلق بدرجات على المعنى، أو متعلق بمحذوف وقع صفة لها. أى درجات كائنة عند الله.
وقوله وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِما يَعْمَلُونَ أى مطلع على أعمال العباد صغيرها وكبيرها ظاهرها وخفيها، لا يغيب عنه شيء، وسيجازى كل إنسان بما يستحقه على حسب عمله، بمقتضى علمه الكامل، وعدله الذي لا ظلم معه.
وبعد أن نزه الله- تعالى- نبيه صلى الله عليه وسلّم عن الغلول وعن كل نقص، وبين أن الناس متفاوتون في الثواب والعقاب على حسب أعمالهم..
بعد أن بين ذلك أتبعه ببيان فضله- سبحانه- على عباده في أن بعث فيهم رسولا منهم ليخرجهم من الظلمات إلى النور فقال- تعالى-: لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ.
قال الرازي: قال الواحدي: «لمن في كلام العرب معان:
أحدها: الذي يسقط من السماء، وهو قوله: وَأَنْزَلْنا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوى.
وثانيها: أن تمن بما أعطيت كما في قوله لا تُبْطِلُوا صَدَقاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذى.
وثالثها: القطع كما في قوله وَإِنَّ لَكَ لَأَجْراً غَيْرَ مَمْنُونٍ ورابعها الإنعام والإحسان إلى من لا تطلب الجزاء منه- وهو المراد هنا» «2» .
والمعنى: لقد أنعم الله على المؤمنين، وأحسن إليهم إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ أى بعث فيهم رسولا عظيم القدر، هو من العرب أنفسهم، وهم يعرفون حسبه ونسبه وشرفه وأمانته صلى الله عليه وسلّم.
وعلى هذا المعنى يكون المراد بقوله مِنْ أَنْفُسِهِمْ أى من نفس العرب، ويكون المراد بالمؤمنين مؤمنى العرب، وقد بعثه الله عربيا مثلهم، ليتمكنوا من مخاطبته وسؤاله ومجالسته والانتفاع بتوجيهاته.
__________
(1) سورة الإسراء الآية 21.
(2) تفسير الفخر الرازي ج 9 ص 87.

الصفحة 325