كتاب التفسير الوسيط لطنطاوي (اسم الجزء: 2)

وعليه درع يجر أطرافها وبيده راية سوداء، فقيل له: أليس قد أنزل الله عذرك؟ فقال: بلى ولكني أحب أن أكثر المسلمين بنفسي «1» .
هذا، وقد أصدر- سبحانه- حكمه العادل على أولئك المنافقين فقال: هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلْإِيمانِ. يَقُولُونَ بِأَفْواهِهِمْ ما لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِما يَكْتُمُونَ.
أى هم يوم أن قالوا هذا القول الباطل قد بينوا حالهم، وهتكوا أستارهم وكشفوا عن نفاقهم لمن كان يظن أنهم مؤمنون، لأنهم قبل أن يقولوا: «لو نعلم قتالا لاتبعناكم» كانوا يتظاهرون بالإيمان، وما ظهرت منهم أمارة تؤذن بكفرهم، فلما انخذلوا عن عسكر المؤمنين وقالوا ما قالوا تباعدوا بذلك عن الإيمان المظنون بهم واقتربوا من الكفر.
أو المعنى: هم لأهل الكفر أقرب نصرة منهم لأهل الإيمان، لأن تقليلهم سواد المسلمين بالانخذال فيه تقوية للمشركين.
قال الجمل: «وقوله هُمْ مبتدأ، وقوله أَقْرَبُ خبره، وقوله لِلْكُفْرِ وقوله لِلْإِيمانِ متعلقان بأقرب، لأن أفعل التفضيل في قوة عاملين. فكأنه قيل: قربوا من الكفر وقربوا من الإيمان، وقربهم للكفر في هذا اليوم أشد لوجود العلامة وهي خذلانهم للمؤمنين» «2» .
وقوله يَقُولُونَ بِأَفْواهِهِمْ ما لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ جملة مستأنفة مبينة لحالهم مطلقا لا في ذلك اليوم فحسب.
أى أن هؤلاء القوم من صفاتهم الذميمة أنهم يقولون بألسنتهم قولا يخالف ما انطوت عليه قلوبهم من كفر، وما امتلأت به نفوسهم من بغضاء لكم- أيها المؤمنون-.
قال صاحب الكشاف: وذكر الأفواه مع القلوب تصوير لنفاقهم، وأن إيمانهم موجود في أفواههم معدوم في قلوبهم، بخلاف صفة المؤمنين في مواطأة قلوبهم لأفواههم» «3» .
وقوله وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِما يَكْتُمُونَ تذييل قصد به زجرهم وتوعدهم بسوء المصير بسبب نفاقهم وخداعهم.
أى والله- تعالى- أعلم منكم- أيها المؤمنون- بما يضمره هؤلاء المنافقون من كفر ومن كراهية لدينكم، لأنه- سبحانه- يعلم ما ظهر وما خفى من أمورهم، وقد كشف الله لكم
__________
(1) تفسير القرطبي ج 4 ص 266.
(2) حاشية الجمل على الجلالين ج 1 ص 334 بتصرف يسير.
(3) تفسير الكشاف ج 1 ص 437.

الصفحة 332