كتاب التفسير الوسيط لطنطاوي (اسم الجزء: 2)

وقوله وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ عطف على قوله بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ فهو داخل تحت حكم باء السببية، وسببيته للعذاب من حيث إن نفى الظلم يستلزم العدل المقتضى إثابة المحسن ومعاقبة المسيء ...
وصيغة المبالغة لتأكيد هذا المعنى بإبراز ما ذكر من التعذيب بغير ذنب في صورة المبالغة في الظلم ... وقيل إن صيغة «ظلام» للنسب كعطار أى: لا ينسب إليه الظلم أصلا» «1» .
ثم ذكر- سبحانه- رذيلة أخرى من رذائل اليهود فقال: الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللَّهَ عَهِدَ إِلَيْنا أَلَّا نُؤْمِنَ لِرَسُولٍ حَتَّى يَأْتِيَنا بِقُرْبانٍ تَأْكُلُهُ النَّارُ.
وقوله الَّذِينَ قالُوا إِنَّ.. إلخ. في محل نصب بتقدير: أعنى. أو في محل رفع بتقدير: هم الذين قالوا. ويجوز أن يكون في محل جر على البدلية من قوله الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ.
والمراد بالموصول جماعة من اليهود منهم كعب بن الأشرف، وفنحاص بن عازوراء، وحي بن أخطب ... وغيرهم، فقد ذكر جماعة من المفسرين أنهم أتوا النبي صلّى الله عليه وسلّم وقالوا له هذا القول وهو: إِنَّ اللَّهَ عَهِدَ إِلَيْنا ... إلخ.
والقربان هو ما يتقرب به إلى الله من نعم أو غير ذلك من القربات.
والمعنى: أن عذابنا الأليم سيصيب أولئك اليهود الذين قالوا: إن الله فقير ونحن أغنياء، والذين قالوا إن الله أمرنا في التوراة وأوصانا بأن لا نصدق ونعترف لرسول يدعى الرسالة إلينا من قبل الله- تعالى- حتى يأتينا بقربان يتقرب به إلى الله، فتنزل نار من السماء فتأكل هذا القربان، فإذا فعل ذلك كان صادقا في رسالته.
ومقصدهم من وراء هذا القول الذي حكاه القرآن عنهم، أن يظهروا أمام الناس بمظهر المحافظين على عهود الله. وأنهم ما تركوا الإيمان بالنبي صلّى الله عليه وسلّم حسدا له، وإنما تركوا الإيمان به، لأنه لم يأت بالمعجزات التي أتى بها الأنبياء السابقون، فهم معذورون إذا لم يؤمنوا به لأنه ليس نبيا صادقا- في زعمهم-.
ولا شك أن قولهم هذا ظاهر البطلان، لأن الإتيان بالقربان إذا كان معجزة لرسول لا يستلزم أن يكون معجزة لكل رسول، إذ أن آيات الله في إثبات رسالات رسله متعددة النواحي، مختلفة المناهج، وكون هذا الإتيان بالقربان الذي تأكله النار معجزة لبعض الرسل لا يستدعى أن يكون معجزة لجميعهم ولذا فقد أمر الله- تعالى- رسوله محمدا صلّى الله عليه وسلّم أن يرد
__________
(1) تفسير الآلوسى ج 4 ص 143. [.....]

الصفحة 358