كتاب التفسير الوسيط لطنطاوي (اسم الجزء: 2)

فقوله الَّذِينَ يَذْكُرُونَ إلخ. في موضع جر على أنه نعت لأولى الألباب. ويجوز أن يكون في موضع رفع أو نصب على المدح.
أى: إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ لآيات واضحات على وحدانية الله وقدرته، لأصحاب العقول السليمة، الذين من صفاتهم أنهم يَذْكُرُونَ اللَّهَ أى يستحضرون عظمته في قلوبهم، ويكثرون من تسبيحه وتمجيده بألسنتهم، ويداومون على ذلك في جميع أحوالهم. فهم يذكرونه قائمين، ويذكرونه قاعدين. ويذكرونه وهم على جنوبهم فالمراد بقوله قِياماً وَقُعُوداً وَعَلى جُنُوبِهِمْ أن ذكرهم لله- تعالى- بقلوبهم وألسنتهم يستغرق عامة أحوالهم» .
وقوله قِياماً وَقُعُوداً منصوبان على الحالية من ضمير الفاعلي في قوله: يَذْكُرُونَ.
وقوله وَعَلى جُنُوبِهِمْ متعلق بمحذوف معطوف على الحال أى: وكائنين على جنوبهم أى مضطجعين.
ثم وصفهم سبحانه وتعالى بوصف آخر فقال: وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ.
أى أن من صفات هؤلاء العباد أصحاب العقول السليمة أنهم يكثرون من ذكر الله- تعالى-، ولا يكتفون بذلك، بل يضيفون إلى هذا الذكر التدبر والتفكر في هذا الكون وما فيه من جمال الصنعة، وبديع المخلوقات، ليصلوا من وراء ذلك إلى الإيمان العميق، والإذعان التام، والاعتراف الكامل بوحدانية الله. وعظيم قدرته ...
فإن من شأن الأخيار من الناس أنهم يتفكرون في مخلوقات الله وما فيها من عجائب المصنوعات، وغرائب المبتدعات، ليدلهم ذلك على كمال قدرة الصانع- سبحانه-، فيعلموا أن لهذا الكون قادرا مدبرا حكيما، لأن عظم آثاره وأفعاله، تدل على عظم خالقها.
ولقد ذكر العلماء كثيرا من الأقوال التي تحض على التفكير السليم، وعلى التدبر في عجائب صنع الله، ومن ذلك قول سليمان الداراني: «إنى أخرج من بيتي فما يقع بصرى على شيء إلا رأيت لله على فيه نعمة، ولى فيه عبرة» ، وقال الحسن البصري: «تفكر ساعة خير من قيام ليلة» .
وقال الفخر الرازي: دلائل التوحيد محصورة في قسمين: دلائل الآفاق، ودلائل الأنفس.
ولا شك أن دلائل الآفاق أجل وأعظم، كما قال- تعالى-: لَخَلْقُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ.
ولما كان الأمر كذلك لا جرم أنه أمر في هذه الآية بالفكر في خلق السموات والأرض، لأن

الصفحة 372