كتاب تاريخ ابن الوردي (اسم الجزء: 2)

حمص ثَانِيًا غضب وأحضر الْملك النَّاصِر وأخاه الظَّاهِر غازياً، وَقَالَ: أَنْت قلت إِن عَسْكَر الشَّام فِي طَاعَتك فغررت بِي وَقتلت المغول فَقَالَ الْملك النَّاصِر: لَو كنت بِالشَّام مَا ضرب أحد فِي وَجه عسكرك بِالسَّيْفِ وَمن يكون بِبِلَاد تبريز كَيفَ يحكم على من بِالشَّام؟ ففوق هولاكو سَهْما وضربه بِهِ، فَقَالَ الْملك النَّاصِر: يَا خوند الصنيعة فَنَهَاهُ أَخُوهُ الظَّاهِر وَقَالَ قد حضرت ثمَّ رَمَاه بِسَهْم ثَان فَقتله.
ثمَّ قتلوا الظَّاهِر أَخا النَّاصِر والصالح ابْن صَاحب حمص وَمن مَعَهم واستبقوا ابْن الْملك النَّاصِر لصغره وَطَالَ مكثه عِنْدهم مكرماً ثمَّ مَاتَ.
وَكَانَ قد زَاد ملك النَّاصِر على ملك أَبِيه وجده فَإِنَّهُ ملك حران والرها والرقة وَرَأس عين وَمَا مَعَ ذَلِك وحمص ثمَّ دمشق وبعلبك والأغوار والسواحل إِلَى غَزَّة، وَكسر عَسَاكِر مصر، وخطب لَهُ بِمصْر وقلعة الْجَبَل كَمَا مر كَانَ يذبح فِي مطبخه كل يَوْم أَرْبَعمِائَة رَأس غنم وسماطه فِي غَايَة التجمل، وَتجَاوز بِهِ حلمه إِلَى قطع المفسدين الطرقات بِحَيْثُ لَا يُسَافر النَّاس إِلَّا برفقه من الْعَسْكَر، وطمع الْعَرَب والتركمان فِي أَيَّامه، وكبست الحرامية الدّور، وَيَقُول عَن الْقَاتِل الْحَيّ خير من الْمَيِّت ويطلقه، فَأدى ذَلِك إِلَى فَسَاد كَبِير، وَكَانَ لَهُ أدب وَشعر، وَله فَمن ذَلِك.
(فوَاللَّه لَو قطعت قلبِي تأسفاً ... وجرعتني كاسات دمعي دَمًا صرفا)

(وَلما زادني إِلَّا هوى ومحبة ... وَلَا اتَّخذت روحي سواك لَهَا إلفا)

وَبنى مدرسته الناصرية بِدِمَشْق - قرب الْجَامِع بوقف جليل، وَبنى بالصالحية تربة بجمل مستكثرة فَدفن فِيهَا كرمون بعض أُمَرَاء التتر، وَكَانَت منية النَّاصِر بِبِلَاد الْعَجم، ومولده سنة سبع وَعشْرين وسِتمِائَة فعمره نَحْو اثْنَتَيْنِ وَثَلَاثِينَ سنة.
وفيهَا: فِي رَجَب قدم مصر جمَاعَة من الْعَرَب وَمَعَهُمْ شخص أسود اللَّوْن اسْمه أَحْمد زَعَمُوا أَنه ابْن الإِمَام الظَّاهِر بِاللَّه بن الإِمَام النَّاصِر، وَأَنه خرج من دَار الْخلَافَة بِبَغْدَاد لما ملكهَا التتر فعقد الْملك الظَّاهِر لَهُ مَجْلِسا حَضَره الشَّيْخ عز الدّين بن عبد السَّلَام وَالْقَاضِي تَاج الدّين عبد الْوَهَّاب بن خلف الْمَعْرُوف بِابْن بنت الْأَعَز فَشهد أُولَئِكَ الْعَرَب أَن هَذَا هُوَ ابْن الظَّاهِر مُحَمَّد بن الإِمَام النَّاصِر فَيكون عَم المستعصم، وَأقَام القَاضِي جمَاعَة من الشُّهُود، وسمعوا شَهَادَات الْعَرَب ثمَّ شهدُوا بِالنّسَبِ بِحكم الاستفاضة، فَأثْبت القَاضِي تَاج الدّين نسب أَحْمد الْمَذْكُور. قلت: إِذا صرح الشَّاهِد بِأَن مُسْتَند شَهَادَته الاستفاضة لم يعْمل القَاضِي بقوله على الصَّحِيح وَإِن لم يُصَرح بهَا سَمِعت شَهَادَته وَإِن كَانَت الاستفاضة مستندة، فَكَأَن الشُّهُود لم يصرحوا فِي شَهَادَتهم بِأَن مستندها فِي أَمر الْخَلِيفَة إِنَّمَا هُوَ الاستفاضة وَالله أعلم.
ولقب الْمُسْتَنْصر بِاللَّه أَبَا الْقَاسِم أَحْمد بن الظَّاهِر بِاللَّه مُحَمَّد، وَبَايَعَهُ الْملك الظَّاهِر

الصفحة 206