كتاب تاريخ ابن الوردي (اسم الجزء: 2)

الرسمني، وَذكر فِيهَا وقْعَة حلب، ولعلها من أحسن مَا قيل فِي ذَلِك.
فَمِنْهَا: هَذَا وَقد نزلت فنون الْبلَاء بِالشَّام وهملت عُيُون العناء كالغمام وَصَارَ وشام الْإِسْلَام كالوشام وعرام الْأَنَام فِي غرام، وخفيت آثَار المآثر، ودرست وطفئت أنوار المنابر وطمست، وحلبت الْعُيُون ماءها على حلب وسكبت الجفون دماءها من الصبب، والتف عَلَيْهَا الختل والاختلال، واحتف بهَا الْقَتْل والوبال، واختطف من أعيانها عرائس الشموس والأقمار، واقتطف من أَغْصَانهَا نفائس النُّفُوس والأعمار، فَستر سفور السرُور وَنشر ستور الشرور، وتخربت الدّور والقصور، ونحرت الْحور فِي النحور، وَجَرت عيونها على أعيانها وهمت جفونها على شبانها بدموع جرت نجيعاً لفظوع طرت سَرِيعا، ونمى الطغيان والغش فِي رَوْضَة الشَّام، وسما الْعدوان فِي عش بَيْضَة الْإِسْلَام، وَرفعت الصلبان على الْمَسَاجِد، وَوضعت الْأَدْيَان والمعابد حَتَّى بَكَى على الْوُجُود الجلمد وشكى إِلَى المعبود السرمد.
وَلما تعظم الْعَدو وتكبر وَتقدم بالعتو وتجبر وَبسط سَيْفه على الْخَافِقين، وَهَبَطَ خَوفه على المشرقين أطلع الله طلائع اللِّوَاء المظفر وأبدع مطالع السناء الأنور وخفقت الرَّايَات والبنود وشرقت الْآيَات والسعود بانجذاب الْكفَّار إِلَى كنعان، وانسحاب الْفجار إِلَى الهوان وَهِي طَوِيلَة وَالله أعلم.
ثمَّ دخلت سنة إِحْدَى وَسِتِّينَ وسِتمِائَة: فِي حادي عشر ربيع الأول مِنْهَا سَار الظَّاهِر بيبرس إِلَى الشَّام فلاقته وَالِدَة المغيث عمر صَاحب الكرك بغزة، وتوثقت مِنْهُ لابنها بالأيمان، ثمَّ تَوَجَّهت إِلَى الكرك وصحبتها شرف الدّين الجاكي المهمندار يحمل الإقامات إِلَى طرقات المغيث، وَوصل الْأَشْرَف مُوسَى صَاحب حمص إِلَى الظَّاهِر بِالطورِ فَأكْرمه. وفيهَا: قتل الْملك المغيث فتح الدّين عمر بن الْعَادِل أبي بكر بن الْكَامِل مُحَمَّد بن الْعَادِل أبي بكر بن أَيُّوب صَاحب الكرك، وَسَببه أَن المغيث - قيل: تعرض إِلَى امْرَأَة الظَّاهِر كرها لما قبض المغيث على البحرية وأرسلهم إِلَى النَّاصِر يُوسُف وهرب الظَّاهِر وَبقيت امْرَأَته فِي الكرك، وغره الظَّاهِر بالإكرام والاستدعاء حَتَّى كتب إِلَيْهِ أَن الْمَمْلُوك ينشد فِي قدوم مَوْلَانَا:
(خليلي هَل أبصرتما أَو سمعتما ... بِأَفْضَل من مولى تمشى إِلَى عبد)

وَسَار المغيث وَوصل ميسَان فَتَلقاهُ الظَّاهِر بعساكره فِي أَوَاخِر جمادي الأولى مِنْهَا وَمنعه من الترحل وسَاق إِلَى جَانِبه وَقد تغير وَجه الظَّاهِر وَلما قَارب الدهليز أنزلهُ فِي خيمه وَقبض عَلَيْهِ وأرسله معتقلاً إِلَى مصر فَكَانَ آخر الْعَهْد بِهِ، وَقيل حمل إِلَى إمرأة الظَّاهِر بقلعة الْجَبَل فَقتله جواريها بالقباقيب.
ثمَّ قبض على أَصْحَابه وَمِنْهُم شرف الدّين بن مزهر نَاظر خزانته ثمَّ أفرج عَنْهُم، وَلما قبض عَلَيْهِ أحضر الْفُقَهَاء والقضاة ووقفهم على مكاتبات التتر أجوبة وَأثبت بذلك مشروحاً على الْحُكَّام، وأقطع ابْنه الْملك الْعَزِيز بن المغيث إقطاعاً وَأحسن إِلَيْهِ.

الصفحة 209