كتاب البرهان في علوم القرآن (اسم الجزء: 2)
وقوله: {وأزلفت الجنة للمتقين غير بعيد}
وَقَوْلِهِ: {خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ} فَإِنَّهُ حَالٌ مُؤَكِّدَةٌ لِقَوْلِهِ: {وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا ففي الجنة خالدين فيها} وَبِهَذَا يَزُولُ الْإِشْكَالُ فِي أَنَّ شَرْطَ الْحَالِ الِانْتِقَالُ وَلَا يُمْكِنُ ذَلِكَ هُنَا فَإِنَّا نَقُولُ ذَلِكَ شَرْطٌ فِي غَيْرِ الْمُؤَكِّدَةِ وَلَمَّا لَمْ يَقِفِ ابْنُ جِنِّي عَلَى ذَلِكَ قَدَّرَ مَحْذُوفًا أَيْ مُعْتَقَدًا خُلُودَهُمْ فِيهَا لِأَنَّ اعْتِقَادَ ذَلِكَ أَمْرٌ ثَابِتٌ عِنْدَ غَيْرِ الْمُؤْمِنِينَ فَلِهَذَا سَاغَ مَجِيئُهَا غَيْرَ مُنْتَقِلَةٍ
وَمِنْهُمْ مَنْ نَازَعَ فِي التَّأْكِيدِ فِي بَعْضِ مَا سَبَقَ لِأَنَّ الْحَالَ الْمُؤَكِّدَةَ مَفْهُومَهَا مَفْهُومُ عَامِلِهَا وَلَيْسَ كَذَلِكَ التَّبَسُّمُ وَالضَّحِكُ فَإِنَّهُ قَدْ يَكُونُ مِنْ غَيْرِ ضَحِكٍ بِدَلِيلِ قَوْلِهِ: "تَبَسَّمَ تَبَسُّمَ الْغَضْبَانِ"
وَكَذَلِكَ التَّوْلِيَةُ والإدبار في قوله تعالى: {ولى مدبرا} {ثم وليتم مدبرين} فَإِنَّهُمَا بِمَعْنَيَيْنِ مُخْتَلِفِينَ فَالتَّوْلِيَةُ أَنْ يُوَلِّيَ الشَّيْءَ ظَهْرَهُ وَالْإِدْبَارُ أَنْ يَهْرَبَ مِنْهُ فَلَيْسَ كُلُّ مُوَلٍّ مُدْبِرًا وَلَا كُلُّ مُدْبِرٍ مُوَلِّيًا وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {إِنَّكَ لَا تُسْمِعُ الْمَوْتَى وَلَا تسمع الصم الدعاء إذا ولوا مدبرين} فَلَوْ كَانَ أَصَمَّ مُقْبِلًا لَمْ يَسْمَعْ فَإِذَا وَلَّى ظَهْرَهُ كَانَ أَبْعَدَ لَهُ مِنَ السَّمَاعِ فَإِذَا أَدْبَرَ مَعَ ذَلِكَ كَانَ أَشَدَّ لِبُعْدِهِ عَنِ السَّمَاعِ وَمِنَ الدَّلِيلِ عَلَى أَنَّ التَّوَلِّيَ لَا يَتَضَمَّنُ الْإِدْبَارَ قَوْلُهُ: {فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ المسجد الحرام} فإنه بمعنى الإقبال
الصفحة 403