كتاب البرهان في علوم القرآن (اسم الجزء: 2)

وَقِيلَ: لِأَنَّ الْقَوْلَ يُطْلَقُ عَلَى الِاعْتِقَادِ فَأَفَادَ: {بِأَفْوَاهِهِمُ} التَّنْصِيصَ عَلَى أَنَّهُ بِاللِّسَانِ دُونَ الْقَلْبِ وَلَوْ لَمْ يُقَيَّدْ لَمْ يُسْتَفَدْ هَذَا الْمَعْنَى وَيَشْهَدُ لَهُ: {إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إنك} الْآيَةَ فَلَمْ يُكَذِّبْ أَلْسِنَتَهُمْ بَلْ كَذَّبَ مَا انْطَوَى عَنْ ضَمَائِرِهِمْ مِنْ خِلَافِهِ
وَإِنَّمَا قَالَ: {في بطونهم نارا} لِأَنَّهُ يُقَالُ: أَكَلَ فِي بَطْنِهِ إِذَا أَمْعَنَ وَفِي بَعْضِ بَطْنِهِ إِذَا اقْتَصَرَ قَالَ:
كُلُوا فِي بَعْضِ بَطْنِكُمْ تَعِفُّوا
فَإِنَّ زَمَانَكُمْ زَمَنٌ خَمِيصُ
فَكَأَنَّهُ قِيلَ: يَأْكُلُونَ مَا يُجَرُّ -إِذَا امْتَلَأَتْ بُطُونُهُمْ- نَارًا
وَإِنَّمَا قَالَ: {الَّتِي فِي الصدور} فإنه سبحانه لما دعاهم إلى التفكير وَالتَّعَقُّلِ وَسَمَاعِ أَخْبَارِ مَنْ مَضَى مِنَ الْأُمَمِ وَكَيْفَ أَهْلَكَهُمْ بِتَكْذِيبِهِمْ رُسُلَهُ وَمُخَالَفَتِهِمْ لَهُمْ قَالَ: {أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يعقلون بها أو آذان يسمعون بها}
قَالَ ابْنُ قُتَيْبَةَ: وَهَلْ شَيْءٌ أَبْلَغُ فِي الْعَظَمَةِ وَالْعِزَّةِ مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَرَادَ: أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا إِلَى آثَارِ قَوْمٍ أَهْلَكَهُمُ اللَّهُ بِالْكُفْرِ وَالْعُتُوِّ فَيَرَوْا بُيُوتًا خَاوِيَةً قَدْ سَقَطَتْ عَلَى عُرُوشِهَا وَبِئْرًا يَشْرَبُ أَهْلُهَا فِيهَا قَدْ عُطِّلَتْ وَقَصْرًا بَنَاهُ مَلِكُهُ بِالشِّيدِ خَلَا مِنَ السَّكَنِ وَتَدَاعَى بِالْخَرَابِ فَيَتَّعِظُوا بِذَلِكَ وَيَخَافُوا مِنْ عُقُوبَةِ اللَّهِ مِثْلَ الَّذِي نَزَلَ بِهِمْ!

الصفحة 428