كتاب كوثر المعاني الدراري في كشف خبايا صحيح البخاري (اسم الجزء: 2)

المحمودة، بل منع الإِفراط المؤدي إلى الملَال والمُبالغة في التطوّع المُفْضي إلى ترك الأفضل، أو إخراج الفَرْض عن وقته كمن يُصلي الليل كله، ويغالبُ النوم إلى أن غَلبته عيناه في آخر الليل، فنام عن صلاة الصبح في الجماعة، أو إلى أن خرج الوقت المختار، أو إلى أن طلعت الشمس فخرج وقت الفريضة.
قال ابن المُنير: في هذا الحديث عَلَمٌ من أعلام النُّبُوَّة، فقد رأينا، ورأى الناس قبلنا، أن كل متنطع في الدين ينقطع. وفي حديث مِحْجن ابن الأدرع عند أحمد: "إنكم لن تنالوا هذا الأمر بالمغالبة، وخَيْر دينكم اليُسْرة". وقد يستفاد من هذا الإِشارة إلى الأخْذ بالرُّخصة الشرعية، فإن الأخذ بالعزيمة في موضع الرخصة تنطعٌ كمن يترك التيمم عند العجز عن استعمال الماء، فيُفْضي به استعماله إلى حصول الضرر.
وقوله: فسَدِّدوا -بالمُهملة- من السَّداد، وهو التَّوسُّط في العمل.
أي: الْزموا السَّداد، وهو الصواب من غير إفراط ولا تفريط. وقوله: وقارِبوا: أي في العبادة، بالموحدة، أي: إن لم تستطيعوا الأخذ بالأكمل، فاعملوا بما يُقرِّب منه. وقوله: وأبشروا، بقطع الهمزة، من الإِبشار. وفي لغة، بضم الشين، من البُشرى، بمعنى الإِبشار، أي: بالثواب على العمل الدائم، وإن قلّ.
والمراد تبشير من عَجز عن العمل الأكمل بأنَّ العجز إذا لم يكن من صنيعه لا يستلزم نقص أجره. وأبهم المُبشِّر به تعظيمًا له وتفخيمًا. وقوله: واستعينوا بالغَدْوة والرَّوْحة، بفتح أولهما وسكون الثاني. وفي العَيْنيّ، تبعًا لابن الأثير أنّ الغُدْوة بضم الغين. والغَدْوة سَيْر أوّل النهار. وقيل: ما بين صلاة الغَداة وطلوع الشمس. والرَّوْحة: السَّيْر بعد الزوال، وقوله: وشيءٍ من الدُّلْجة، أي: واستعينوا بشيء من الدُّلجة. والدُّلجة، بضم أوله وفتحه، وإسكان اللام: سير آخر الليل. وقيل: سيرُ الليل كلِّه، ولهذا عبَّر فيه بالتبْعيض، ولأن عمل الليل أشقُّ من عمل النهار. وهذه

الصفحة 218