كتاب كوثر المعاني الدراري في كشف خبايا صحيح البخاري (اسم الجزء: 2)

الأول: أن يفعلها على الوجه الذي تسقط معه وظيفة التكليف، باستيفاء الشرائط والأركان.
الثاني: أن يفعلها كذلك، وقد استغرق في بحار المكاشفة، حتى كأنه يرى الله تعالى، وهذا مقامه صلى الله تعالى عليه وسلم كما قال: "وجُعِلَتْ قرة عيني في الصلاة" لحصول الاستلذاذ بالطاعة، والراحة بالعبادة، وانسداد مسالك الالتفات إلى الغير باستيلاء أنوار الكشف عليه، وهو ثمرة امتلاء زوايا القلب من المحبوب، واشتغال السرّ به، ونتيجته نسيان الأحوال من المعلوم، واضمحلال الرسوم.
الثالث: أن يفعلها وقد غلب عليه أن الله تعالى يشاهده، وهذا مقام المراقبة، فقوله: "فإن لم تكُن تراهُ" نزول عن مقام المكاشفة إلى مقام المراقبة، أي: إن لم تعبده وأنت من أهل الرؤية المعنوية، فاعبده وأنت بحيث أنه يراك.
وكل من المقامات الثلاث إحسان، إلا أن الإحسان الذي هو شرط في صحة العبادة إنما هو الأول، لأن الإحسان بالآخَرَيْن من صفة الخواص، ويتعذر من كثيرين، وإنما أخر السؤال عن الإحسان لأنه صفة الفعل. أو شرط في صحته، والصفة بعد الموصوف، وبيان الشرط متأخر عن المشروط.
قلت: الإحسان المذكور في الحديث ليس شرطًا في صحة الفعل كما مر قريبًا، فالصواب الاقتصار على المعنى الأول، أو يقال: إنه تكملة للأولين ليس داخلًا في حقيقتهما، فناسب ذلك تأخيره عنهما، وقال النووي تبعًا لعياض في أصل المعنى: وهذا القدر من الحديث أصل عظيم من أصول الدين، وقاعدة مهمة من قواعد المسلمين، وهو عمدة الصديقين، وبغية السالكين، وكنز العارفين، ودأب الصالحين، وهو من جوامع الكَلِم التي أوتيها صلى الله تعالى عليه وسلم، وقد ندب أهل التحقيق إلى مجالسة الصالحين، ليكون ذلك مانعًا من التلبس بشيء من

الصفحة 349