كتاب كوثر المعاني الدراري في كشف خبايا صحيح البخاري (اسم الجزء: 2)

النقائص، احترامًا لهم، واستحياءً منهم، فكيف بمن لا يزال الله مطلعًا عليه في سره وعلانيته، وهو المحرك لجوارحه حين العلم.
زاد مسلم في رواية عمارة بن القعقاع قول السائل: "صدقت" عقب كل جواب من الأجوبة الثلاثة، وزاد أبو فَرْوة في روايته عند أبي داود والنسائي: "فلما سمعنا قول الرجل: صدقت، أنكرناه" وفي رواية كَهْمَس عند مسلم "فعجبنا له، يسأله ويصدقه" وفي رواية مَطَر الورّاق عند أبي عَوانة في "صحيحه": "انظُروا إليه كيف يسألُه، وانظُروا إليه كيف يصدقه" وفي حديث أنس عن البزار والبخاري في "خلق أفعال العباد": "انظروا وهو يسأله ويصدقه، كأنه أعلم منه" وفي رواية سُليمان بن بُريدة عن أحمد: "قال القوم: ما رأينا رجلًا مثلَ هذا، كأنه يعلِّم النبي صلى الله تعالى عليه وسلم، يقول له: صدقت صدقت".
قال القُرطبي: إنما عجبوا من ذلك، لأن ما جاء به النبي صلى الله تعالى عليه وسلم لا يُعرف إلا من جهته، وليس هذا السائل ممن عرف بلقائه عليه الصلاة والسلام، ولا بالسماع منه، ثم هو يسأل سؤال عارف بما يسأل عنه، لأنه يخبره بأنه صادق فيه، فتعجبوا من ذلك تعجب المستبعد لذلك.
وقد دل سياق الحديث على أن رؤية الله في الدنيا بالأبصار غير واقعة، وقد صرح بذلك أبو أُمامة فيما رواه مسلم عنه، من أنه صلى الله تعالى عليه وسلم قال: "اعلموا أنكم لن تَرَوْا ربَّكم حتى تموتوا" وأما رؤية النبي صلى الله تعالى عليه وسلم له فذلك لدليل آخر، وقد يقال: رؤيته عليه الصلاة والسلام له تعالى لم تكن في دار الدنيا، بل كانت في الملكوت الأعلى، والدنيا لا تطلق عليه.
وأقدم بعض غلاة الصوفية على تأويل الحديث بغير علم، فقال: فيه إشارة إلى مقام المحو والفناء، وتقديره: فإن لم تكن أي: فإن لم تصر شيئًا، وفنيت عن نفسك، حتى كأنك لست بموجود، فإنك حينئذ تراه،

الصفحة 350