كتاب كوثر المعاني الدراري في كشف خبايا صحيح البخاري (اسم الجزء: 2)

ولا يرد على هذا إضافة الإبل لهم، لأنها إضافة اختصاص لا ملك على هذا، والغالب أن الراعي يرعى لغيره بالأجرة، وأما المالك فقَلَّ أن يباشر الرعي بنفسه. وعلى الثاني: فوصف الِإبل بالبهم، أي: السود، لأنها شر الألوان عندهم، وخيرها الحمر التي ضرب بها المثل، فقيل: خير من حمر النعم.
وفي رواية مسلم: "رعاء البَهْم" -بفتح الباء- وهي صغار الغنم من الضَّأْن والمعز، وفي رواية للأصيلي كذلك، لكنها لا تتجه مع ذكر الإِبل، وإنما تتجه مع ذكر الشياه، أو مع عدم الإضافة كما في مسلم. وقوله في التفسير: "وإذا كانت الحفاة العراة رؤوس الناس" زاد الإسماعيلي: "الصم البكم"، وقيل لهم ذلك مبالغة في وصفهم بالجهل، أي: لم يستعملوا أسماعهم ولا أبصارهم في شيء من أمر دينهم، وإن كانت حواسهم سليمة.
وقوله: "رؤوس الناس" أي: ملوك الأرض، كما صرح به الإسماعيلي، والمراد بهم البادية، كما صرح به سليمان التَّيْمي، قال: ما الحفاة العراة؟ قال: العُرَيْب: وهو بالعين المهملة على التصغير. وفي الطبراني عن ابن عباس مرفوعًا: "من انغلاب الدين تفصُّحُ النَّبَط، واتخاذهم القصور في الأمصار".
قال القرطبي: المقصود الإخبار عن تبدل الحال، بأن يستولي أهل البادية على الأمر، ويتملكوا البلاد بالقهر، فتكثر أموالهم، وتنصرف هممهم إلى تشييد البنيان والتفاخر به. قال: وقد شاهدنا ذلك في هذا الزمان.
ولو حضر زماننا هذا لرأى ما هو أفظع من ذلك، وهذا كله عبارة عن ارتفاع الأسافل كالعبيد ورعاة الإبل، وما أحسن قول القائل:
إذا التَحَقَ الأسافلُ بالأعالي ... فقَدْ طابَتْ منادمةُ المنايا

الصفحة 362