كتاب كوثر المعاني الدراري في كشف خبايا صحيح البخاري (اسم الجزء: 2)

رابعها: المباح الذي هو من قسم خلاف الأولى، بأن يكون متساوي الطرفين باعتبار ذاته، راجح الفعل أو الترك باعتبار أمر خارج.
قال في "الفتح": والذي يظهر لي رجحان الوجه الأول، لما أخرجه المصنف في البيوع عن الشعبي في هذا الحديث: "فمن تركَ ما شبه عليه من الإثم كانَ لما استبانَ له أَترَك، ومن اجترأ على ما يشك فيه من الإثم، أو شك أن يواقع ما استبان" ثم قال: ولا يبعد أن يكون كل من الأوجه مرادًا، ويختلف ذلك باختلاف الناس، فالعالم الفطن لا يخفى عليه تمييز الحكم، فلا يقع له ذلك إلا في الاستكثار من المباح أو المكروه كما يأتي قريبًا، ودونه تقع له الشبهة في جميع ما ذكر بحسب اختلاف الأحوال، ولا يخفى أن المستكثر من المكروه تصير فيه جرأة على ارتكاب المنهي في الجملة، أو يحمله اعتياده ارتكاب المنهي غير المحرم على ارتكاب المنهي المحرم إذا كان من جنسه، أو يكون ذلك لشبهة فيه، وهو أن من تعاطى ما نهي عنه يصير مظلم القلب لفقدان نور الورع، فيقع في الحرام، ولو لم يختر الوقوع فيه.
وقوله: "فمن اتّقى المشبّهات" أي: حذر منها، والاختلاف في لفظها بين الرواة نظير التي قبلها، لكن عند مسلم والإسماعيلي: "الشُّبُهات" بالضم، جمع شبهة.
وقوله: "أستبرأ لدينه وعرضه" استبرأ بالهمزة بوزن استفعل من البراءة، أي برَّأَ دينه من النقص، وعرضه من الطعن فيه، لأن من لم يعرف باجتناب الشبهات، لم يسلم من قول من يطعن فيه. وللأصيلي: "لعرضه ودينه".
وفي الحديث دليل على أن من لم يتوق الشبهة في كسبه ومعاشه فقد عرض نفسه للطعن فيه، وفي هذا إشارة إلى المحافظة على أمور الدين، ومراعاة المروءة.
قلت: المحافظة على الدين والعرض وغيرهما من تمام الكليات الست التي هي: النفس، والعمل والنسب، والمال واجبة في كل ملة

الصفحة 378