كتاب الفروق للقرافي = أنوار البروق في أنواء الفروق (اسم الجزء: 2)

بِوَاجِبٍ عَنْ الْوَاجِبِ وَلَيْسَ كَذَلِكَ بَلْ الْوَاجِبُ عَلَيْهِمْ إحْدَى الصَّلَاتَيْنِ إمَّا الظُّهْرُ وَإِمَّا الْجُمُعَةُ فَالْوَاجِبُ هُوَ الْقَدْرُ الْمُشْتَرَكُ بَيْنَ الصَّلَاتَيْنِ وَهُوَ مَفْهُومُ إحْدَاهُمَا كَالْوَاجِبِ فِي خِصَالِ الْكَفَّارَةِ إحْدَى الْخِصَالِ، فَإِذَا أَحْرَمَ الْعَبْدُ بِالْجُمُعَةِ فَقَدْ أَحْرَمَ بِإِحْدَى الصَّلَاتَيْنِ وَعَيَّنَ ذَلِكَ الْمُشْتَرَكَ فِي أَحَدِ مَعْنَيَيْهِ كَمَا يُعَيِّنُ الْمُكَفِّرُ إحْدَى الْخِصَالِ بِالْعِتْقِ فَهُوَ مُعَيِّنٌ لِلْوَاجِبِ لَا فَاعِلٌ لِغَيْرِ الْوَاجِبِ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ فَأَجْزَأَهُ عَنْ الْوَاجِبِ بَلْ غَيْرِ الْوَاجِبِ هَا هُنَا هُوَ خُصُوصُ الْجُمُعَةِ لَا مُطْلَقُ إحْدَى الصَّلَاتَيْنِ فَالْجُمُعَةُ مُشْتَمِلَةٌ عَلَى أَمْرَيْنِ خُصُوصٌ غَيْرُ وَاجِبٍ وَهُوَ كَوْنُهَا جُمُعَةً وَعُمُومٌ وَاجِبٌ وَهُوَ كَوْنُهَا إحْدَى الصَّلَاتَيْنِ فَأَجْزَأَتْ عَنْ الْوَاجِبِ مِنْ جِهَةِ عُمُومِهَا الْوَاجِبِ لَا مِنْ جِهَةِ خُصُوصِهَا الَّذِي لَيْسَ بِوَاجِبٍ كَمَا أَنَّ الْمُكَفِّرَ عَنْ الْيَمِينِ بِالْعِتْقِ فِي عِتْقِهِ أَمْرَانِ: خُصُوصٌ وَهُوَ كَوْنُهُ عِتْقًا، وَعُمُومٌ وَهُوَ كَوْنُهُ إحْدَى الْخِصَالِ الثَّلَاثِ فَيُجْزِئُ الْعِتْقُ عَنْهُ مِنْ جِهَةِ عُمُومِهِ الْوَاجِبِ لَا مِنْ جِهَةِ خُصُوصِهِ الَّذِي لَيْسَ بِوَاجِبٍ وَهَذَا لَيْسَ عَلَى خِلَافِ الْأَصْلِ بِخِلَافِ الْقَاعِدَةِ الْأُولَى فِي الِامْتِنَاعِ وَيَتَمَهَّدُ الْفَرْقُ بِأَرْبَعِ مَسَائِلَ أُخَرَ.
(الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى) قَالُوا: الْعَبْدُ لَا يَؤُمُّ فِي الْجُمُعَةِ؛ لِأَنَّ الْمَذْهَبَ أَنَّ الْمُفْتَرِضَ لَا يَأْتَمُّ بِالْمُتَنَفِّلِ، فَقِيلَ: إذَا حَضَرَهَا صَارَ مِنْ أَهْلِهَا وَوَجَبَتْ عَلَيْهِ بِالشُّرُوعِ فَصَارَ مُفْتَرِضًا فَمَا ائْتَمَّ الْحُرُّ إلَّا بِمُفْتَرِضٍ فَإِنْ قِيلَ إنَّمَا تَجِبُ بِالشُّرُوعِ فَيَكُونُ الشُّرُوعُ غَيْرَ وَاجِبٍ فَيَقَعُ الِائْتِمَامُ بِهِ فِيهِ وَهُوَ
ـــــــــــــــــــــــــــــSوَيَتَمَهَّدُ الْفَرْقُ بِأَرْبَعِ مَسَائِلَ. قُلْت: مَا قَالَهُ فِي ذَلِكَ صَحِيحٌ إلَّا قَوْلَهُ فَالْوَاجِبُ هُوَ الْقَدْرُ الْمُشْتَرَكُ بَيْنَ الصَّلَاتَيْنِ وَهُوَ مَفْهُومُ إحْدَاهُمَا فَإِنَّهُ لَيْسَ الْقَدْرُ الْمُشْتَرَكُ هُوَ مَفْهُومُ إحْدَاهُمَا بَلْ مَفْهُومُ إحْدَاهُمَا وَاحِدَةٌ غَيْرُ مُعَيَّنَةٍ مِنْ الصَّلَاتَيْنِ.
قَالَ (الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى قَالُوا الْعَبْدُ لَا يَؤُمُّ فِي الْجُمُعَةِ؛ لِأَنَّ الْمَذْهَبَ أَنَّ الْمُفْتَرِضَ لَا يَأْتَمُّ بِالْمُتَنَفِّلِ إلَى آخِرِ الْمَسْأَلَةِ) قُلْت: مَا قَالَهُ فِيهَا غَيْرُ صَحِيحٍ فَإِنَّهُ جَعَلَهَا مِنْ الْوَاجِبِ الْمُخَيَّرِ وَمُوقِعُ نَوْعَيْ الْوَاجِبِ الْمُخَيَّرِ أَوْ أَنْوَاعِهِ لَا يُوقِعُ إلَّا وَاجِبًا فَالْعَبْدُ إذَا اخْتَارَ إيقَاعَ الْجُمُعَةِ لَا تَقَعُ إلَّا وَاجِبَةً فَالْحُرُّ إذَا اقْتَدَى بِهِ لَمْ يَكُنْ مُفْتَرِضًا ائْتَمَّ بِمُتَنَفِّلٍ فَيَنْبَغِي أَنْ يَصِحَّ اقْتِدَاؤُهُ بِهِ، وَمَا قَالَهُ مِنْ أَنَّ الْخُصُوصَاتِ غَيْرُ وَاجِبَةٍ مُسَلَّمٌ لَكِنْ مِنْ حَيْثُ هِيَ خُصُوصَاتٌ مُعَيَّنَاتٌ لَا مِنْ حَيْثُ هِيَ دَاخِلَةٌ تَحْتَ الْعُمُومِ فَإِنَّ الْعُمُومَ عَلَى مَا الْتَزَمَهُ هُوَ وَاجِبٌ وَهَلْ يُمْكِنُ إيقَاعُ الْعَامِّ مِنْ حَيْثُ هُوَ عَامٌّ هَذَا لَا سَبِيلَ إلَيْهِ، وَإِنَّمَا يَقَعُ مِنْ حَيْثُ الْخُصُوصِ الشَّخْصِيِّ خَاصَّةً لَا يُمْكِنُ غَيْرُ ذَلِكَ بِوَجْهٍ فَالْعَامُّ عَلَى هَذَا لَا يَقَعُ إلَّا فِي الْخَاصِّ وَهَذَا كُلُّهُ مُجَارَاةٌ لَهُ عَلَى تَسْلِيمِ أَنَّ الْوُجُوبَ فِي الْوَاجِبِ الْمُخَيَّرِ يَتَعَلَّقُ بِالْمَعْنَى الْعَامِّ مِنْ حَيْثُ هُوَ عَامٌّ وَذَلِكَ عِنْدَ التَّحْقِيقِ غَيْرُ صَحِيحٍ وَإِنَّمَا هُوَ أَعْنِي الْوُجُوبَ مُتَعَلِّقٌ فِي الْوَاجِبِ الْمُخَيَّرِ بِوَاحِدٍ غَيْرِ مُعَيَّنٍ مِمَّا فِيهِ الْمَعْنَى الْعَامُّ الَّذِي يُقَالُ لَهُ الْمُشْتَرَكُ وَعَلَى هَذَا لَمْ يَتَعَلَّقْ الْوُجُوبُ فِي الْوَاجِبِ الْمُخَيَّرِ إلَّا بِخُصُوصٍ لَكِنَّهُ خُصُوصٌ غَيْرُ مُعَيَّنٍ مِنْ قِبَلِ الْآمِرِ وَتَعَيُّنُهُ مَوْكُولٌ إلَى خِيرَةِ الْمَأْمُورِ هَذَا
ـــــــــــــــــــــــــــــQوَاضِحٌ وَبَاقِي الْبَحْثِ فِي الْمَسْأَلَةِ مَوْكُولٌ إلَى عِلْمِ الْأُصُولِ، وَبَيَانُ بَعْضِ تَفَاصِيلِ هَذِهِ الْجُمْلَةِ لِيَظْهَرَ وَجْهُهَا وَنَتَبَيَّنَ صِحَّتَهَا بِحَوْلِ اللَّهِ هُوَ أَنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ خَلَقَ الْخَلْقَ غَيْرَ عَالِمِينَ بِوُجُوهِ مَصَالِحِهِمْ لَا فِي الدُّنْيَا وَلَا فِي الْآخِرَةِ أَلَا تَرَى إلَى قَوْله تَعَالَى {وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لا تَعْلَمُونَ شَيْئًا} [النحل: 78] ثُمَّ وَضَعَ فِيهِمْ الْعِلْمَ بِذَلِكَ عَلَى التَّدْرِيجِ وَالتَّرْبِيَةِ تَارَةً بِالْإِلْهَامِ كَمَا يُلْهِمُ الطِّفْلَ الْتِقَامَ الثَّدْيِ وَمَصَّهُ وَتَارَةً بِالتَّعْلِيمِ فَطَلَبَ النَّاسَ بِالتَّعَلُّمِ وَالتَّعْلِيمِ لِجَمِيعِ مَا يُسْتَجْلَبُ بِهِ الْمَصَالِحُ أَوْ كَافَّةِ مَا تُدْرَأُ بِهِ الْمَفَاسِدُ إنْهَاضًا لِمَا جُبِلَ فِيهِمْ مِنْ تِلْكَ الْغَرَائِزِ الْفِطْرِيَّةِ وَالْمَطَالِبِ الْإِلْهَامِيَّةِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ كَالْأَصْلِ لِلْقِيَامِ بِتَفَاصِيلِ الْمَصَالِحِ كَانَ ذَلِكَ مِنْ قَبِيلِ الْأَفْعَالِ أَوْ الْأَقْوَالِ أَوْ الْعُلُومِ وَالِاعْتِقَادَاتِ أَوْ الْآدَابِ الشَّرْعِيَّةِ أَوْ الْعَادِيَّةِ.
وَفِي أَثْنَاءِ الْعِنَايَةِ بِذَلِكَ يَقْوَى فِي كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الْخَلْقِ مَا فُطِرَ عَلَيْهِ وَمَا أُلْهِمَ إلَيْهِ مِنْ تَفَاصِيلِ الْأَحْوَالِ وَالْأَعْمَالِ فَيَظْهَرُ فِيهِ وَعَلَيْهِ وَيَبْرُزُ فِيهِ أَقْرَانَهُ مِمَّنْ لَمْ يُهَيَّأْ تِلْكَ التَّهْيِئَةَ فَلَا يَأْتِي زَمَانُ التَّعَقُّلِ إلَّا وَقَدْ نَجَمَ عَلَى ظَاهِرِهِ مَا فُطِرَ عَلَيْهِ فِي أَوَّلِيَّتِهِ فَتَرَى وَاحِدًا قَدْ تَهَيَّأَ لِطَلَبِ الْعِلْمِ وَآخَرَ لِطَلَبِ الرِّيَاسَةِ وَآخَرَ لِلتَّصَنُّعِ بِبَعْضِ الْمِهَنِ الْمُحْتَاجِ إلَيْهَا وَآخَرَ لِلصِّرَاعِ وَالنِّطَاحِ إلَى سَائِرِ الْأُمُورِ، هَذَا وَإِنْ كَانَ كُلُّ وَاحِدٍ قَدْ غُرِزَ فِيهِ التَّصَرُّفُ الْكُلِّيُّ فَلَا بُدَّ فِي غَالِبِ الْعَادَةِ مِنْ غَلَبَةِ الْبَعْضِ عَلَيْهِ فَيَرِدُ التَّكْلِيفُ عَلَيْهِ مُعَلِّمًا وَمُؤَدِّبًا فِي حَالَتِهِ الَّتِي هُوَ عَلَيْهَا فَعِنْدَ ذَلِكَ يَنْهَضُ الطَّلَبُ عَلَى كُلِّ مُكَلَّفٍ فِي نَفْسِهِ مِنْ تِلْكَ الْمَطْلُوبَاتِ بِمَا هُوَ نَاهِضٌ فِيهِ وَيَتَعَيَّنُ عَلَى النَّاظِرِينَ فِيهِمْ الِالْتِفَاتُ إلَى تِلْكَ الْجِهَاتِ فَيُرَاعُونَهُمْ بِحَسَبِهَا وَيُرَاعُونَهَا إلَى أَنْ تَخْرُجَ فِي أَيْدِيهِمْ عَلَى الصِّرَاطِ الْمُسْتَقِيمِ وَيُعِينُونَهُمْ عَلَى الْقِيَامِ بِهَا وَيُحَرِّضُونَهُمْ عَلَى الدَّوَامِ فِيهَا حَتَّى يَبْرُزَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ فِيمَا غَلَبَ عَلَيْهِ وَمَالَ إلَيْهِ مِنْ تِلْكَ الْخُطَطِ، ثُمَّ يُخَلَّى بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ أَهْلِهَا فَيُعَامِلُونَهُمْ بِمَا يَلِيقُ بِهِمْ لِيَكُونُوا مِنْ أَهْلِهَا إذَا صَارَتْ لَهُمْ كَالْأَوْصَافِ الْفِطْرِيَّةِ وَالْمُدْرَكَاتِ الضَّرُورِيَّةِ فَعِنْدَ ذَلِكَ يَحْصُلُ الِانْتِفَاعُ وَتَظْهَرُ نَتِيجَةُ تِلْكَ التَّرْبِيَةِ.
فَإِذَا فُرِضَ مَثَلًا وَاحِدٌ مِنْ الصِّبْيَانِ ظَهَرَ عَلَيْهِ حُسْنُ إدْرَاكٍ وَجَوْدَةُ فَهْمٍ وَوُفُورُ حِفْظٍ لِمَا يَسْمَعُ وَإِنْ كَانَ مُشَارِكًا فِي غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْأَوْصَافِ مِيلَ بِهِ نَحْوَ ذَلِكَ الْقَصْدِ وَهَذَا وَاجِبٌ عَلَى النَّاظِرِ فِيهِ مِنْ حَيْثُ الْجُمْلَةِ مُرَاعَاةً لِمَا يُرْجَى فِيهِ مِنْ الْقِيَامِ بِمَصْلَحَةِ التَّعْلِيمِ فَطُلِبَ بِالتَّعَلُّمِ وَأُدِّبَ بِالْآدَابِ الْمُشْتَرَكَةِ بِجَمِيعِ الْعُلُومِ وَلَا بُدَّ أَنْ يُمَالَ مِنْهَا

الصفحة 21