كتاب الفروق للقرافي = أنوار البروق في أنواء الفروق (اسم الجزء: 2)

وَيَسِيرُ جِبْرِيلُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - مِنْ الْعَرْشِ إلَى الْفَرْشِ سَبْعَةَ آلَافِ سَنَةٍ فِي لَحْظَةٍ وَاحِدَةٍ وَيَحْمِلُ مَدَائِنَ لُوطٍ الْخَمْسَةَ مِنْ تَحْتِ الْأَرْضِ عَلَى جَنَاحِهِ لَا يَضْطَرِبُ مِنْهَا شَيْءٌ بَلْ يَقْتَلِعُهَا مِنْ تَحْتِهَا عَلَى هَذَا الْوَجْهِ وَيَصْعَدُ بِهَا إلَى الْجَوِّ ثُمَّ يَقْلِبُهَا وَهَذَا عَظِيمٌ.
وَالْمَلَكُ الْوَاحِدُ مِنْ الْمَلَائِكَةِ يَقْهَرُ الْجَمْعَ الْعَظِيمَ مِنْ الْجَانِّ وَلِذَلِكَ سَأَلَ سُلَيْمَانُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - رَبَّهُ تَعَالَى أَنْ يُوَلِّيَ عَلَى الْجَانِّ الْمَلَائِكَةَ فَفَعَلَ لَهُ ذَلِكَ فَهُمْ الزَّاجِرُونَ لَهُمْ الْيَوْمَ عِنْدَ الْعَزَائِمِ وَغَيْرِهَا الَّتِي يَتَعَاطَاهَا أَهْلُ هَذَا الْعِلْمِ فَيُقْسِمُونَ عَلَى الْمَلَائِكَةِ بِتِلْكَ الْأَسْمَاءِ الَّتِي تُعَظِّمُهَا الْمَلَائِكَةُ فَتَفْعَلُ فِي الْجَانِّ مَا يُرِيدُهُ الْمُقْسِمُ عَلَيْهِمْ بِتِلْكَ الْأَسْمَاءِ الْمُعَظَّمَةِ وَكَانُوا قَبْلَ زَمَنِ سُلَيْمَانَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - يُخَالِطُونَ النَّاسَ فِي الْأَسْوَاقِ وَيَعْبَثُونَ بِهِمْ عَبَثًا شَدِيدًا فَلَمَّا رَتَّبَ سُلَيْمَانُ هَذَا التَّرْتِيبَ وَسَأَلَهُ مِنْ رَبِّهِ انْحَازُوا إلَى الْفَلَوَاتِ وَالْخَرَابِ مِنْ الْأَرْضِ فَقَلَّتْ أَذِيَّتُهُمْ وَالْمَلَائِكَةُ تُرَاقِبُهُمْ فِي ذَلِكَ فَمَنْ عَبِثَ مِنْهُمْ وَعَثَا رَدُّوهُ، أَوْ قَتَلُوهُ كَمَا يَفْعَلُ وُلَاةُ بَنِي آدَمَ مَعَ سُفَهَائِهِمْ وَمَا سَبَبُ اقْتِدَارِ الْمَلَائِكَةِ عَلَى الْجَانِّ إلَّا فَضْلُ أَبْنِيَتِهِمْ وَوُفُورُ قُوَّتِهِمْ فَهُمْ مُفَضَّلُونَ عَلَى الْجَانِّ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ مُضَافًا لِبَقِيَّةِ الْوُجُوهِ، وَهَذِهِ النُّكْتَةُ يُنْتَفَعُ بِهَا كَثِيرًا فِي النُّصُوصِ الدَّالَّةِ عَلَى تَفْضِيلِ الْمَلَائِكَةِ عَلَى الْبَشَرِ فَإِنَّ الصَّحِيحَ أَنَّ الْبَشَرَ أَفْضَلُ عَلَى تَفْصِيلٍ يُذْكَرُ فِي مَوْضِعِهِ فَإِذَا قُصِدَ الْجَوَابُ عَنْ تِلْكَ النُّصُوصِ حُمِلَ ذَلِكَ التَّفْضِيلُ وَالثَّنَاءُ عَلَى الْأَبْنِيَةِ وَجَوْدَةِ التَّرْكِيبِ إذَا كَانَ النَّصُّ يَحْتَمِلُ ذَلِكَ فَيَنْدَفِعُ أَكْثَرُ الْأَسْئِلَةِ وَالنُّقُوضِ عَنْ الْمُسْتَدِلِّ عَلَى أَفْضَلِيَّةِ الْأَنْبِيَاءِ صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِمْ وَلَا نِزَاعَ أَنَّ الْمَلَائِكَةَ أَفْضَلُ فِي أَبْنِيَتِهِمْ وَأَنَّ أَبْنِيَةَ بَنِي آدَمَ خَسِيسَةٌ
ـــــــــــــــــــــــــــــSالَّتِي ذَكَرَهَا إلَى تَأْثِيرِ غَيْرِ الْقُدْرَةِ الْقَدِيمَةِ عَلَى مَا ظَهَرَ مِنْ مَسَاقِ كَلَامِهِ وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ وَمَا قَالَهُ بَعْدَ ذَلِكَ فِي الْقَاعِدَةِ الْعِشْرِينَ وَمَا بَعْدَهُ إلَى مُنْتَهَى قَوْلِهِ فَهِيَ مِنْ الْمُفَضَّلَاتِ الَّتِي عُلِمَ تَفْضِيلُهَا صَحِيحٌ كُلُّهُ.
ـــــــــــــــــــــــــــــQالْجَانِّ عَلَى بَنِي آدَمَ فِي الْأَبْنِيَةِ وَجَوْدَةِ التَّرْكِيبِ مِنْ جِهَةِ تَقْدِيرِهِ تَعَالَى أَنَّهُمْ يَعِيشُونَ الْآلَافَ مِنْ السِّنِينَ فَلَا يَعْرِضُ لَهُمْ الْمَوْتُ وَكَذَلِكَ لَا تَعْرِضُ لَهُمْ الْأَمْرَاضُ وَالْأَسْقَامُ الَّتِي تَعْرِضُ لِبَنِي آدَمَ بِسَبَبِ أَنَّ أَجْسَادَهُمْ لَمْ يَجْعَلْهَا تَعَالَى مُشْتَمِلَةً عَلَى الرُّطُوبَاتِ وَأَجْرَامِ الْأَغْذِيَةِ كَمَا جَعَلَ أَجْسَادَ بَنِي آدَمَ مُشْتَمِلَةً عَلَى ذَلِكَ فَصَارَ يَعْرِضُ لَهَا الْعَفَنُ وَآفَاتُ الرُّطُوبَاتِ دُونَ أَجْسَادِ الْجَانِّ فَلِذَلِكَ كَثُرَ بَقَاؤُهُمْ وَطَالَ وَأَسْرَعَ لِبَنِي آدَمَ الْمَوْتُ عَلَى حَسَبِ تَقْدِيرِ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ وَمِمَّا وَرَدَ قَوْلُ الشَّاعِرِ فِي الْجَانِّ لَمَّا وَرَدَ عَلَيْهِ وَهُوَ يُقِيدُ النَّارَ:
أَتَوْا نَارِي فَقُلْت مَنُونُ أَنْتُمْ ... فَقَالُوا الْجِنُّ قُلْت عِمُوا ظَلَامَا
فَقُلْت إلَى الطَّعَامِ فَقَالَ مِنْهُمْ ... زَعِيمٌ يَحْسُدُ الْإِنْسَ الطَّعَامَا
لَقَدْ فُضِّلْتُمْ بِالْأَكْلِ عَنَّا ... وَلَكِنْ ذَاكَ يُعْقِبُكُمْ سِقَامَا
فَصَرَّحُوا فِي شِعْرِهِمْ بِمَا تَقَدَّمَ.
وَقَالَ جَمَاعَةٌ مِنْ الْعُلَمَاءِ مِنْهُمْ الْغَزَالِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - فِي الْإِحْيَاءِ إنَّهُمْ يَتَغَذَّوْنَ مِنْ الْأَعْيَانِ بِرَوَائِحِهَا وَلِذَلِكَ جَاءَ فِي الْحَدِيثِ «أَنَّهُمْ قَالُوا لِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مُرْ أُمَّتَك لَا يَسْتَجْمِرُوا بِرَوْثٍ وَلَا عَظْمٍ فَإِنَّهَا طَعَامُنَا وَطَعَامُ دَوَابِّنَا» مَعَ أَنَّا نَجِدُ الْعَظْمَ يَمُرُّ عَلَيْهِ الدَّهْرُ الطَّوِيلُ لَا يَتَغَيَّرُ مِنْهُ شَيْءٌ فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّهُمْ يَتَغَذَّوْنَ بِالرَّائِحَةِ.
قَالَ الْأَصْلُ وَرَأَيْت فِي بَعْضِ الْكُتُبِ عَنْ وَهْبِ بْنِ مُنَبِّهٍ أَنَّهُمْ طَوَائِفُ مِنْهُمْ مَنْ يَتَغَذَّى بِالرَّائِحَةِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَتَغَذَّى بِجِرْمِ الْغِذَاءِ وَمِنْهُمْ طَائِرٌ لَا يَأْوِي فِي الْأَرْضِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَأْوِي فِي الْأَرْضِ يَرْحَلُونَ وَيَنْزِلُونَ فِي الْبَرَارِي كَالْأَعْرَابِ، وَإِنَّ أَحْوَالَهُمْ مُخْتَلِفَةٌ فِي ذَلِكَ وَعَلَى الْجُمْلَةِ فَتَرَاكِيبُهُمْ أَعْظَمُ وَسَيْرُهُمْ فِي الْأَرْضِ أَيْسَرُ فَيَسِيرُونَ الْمَسَافَةَ الطَّوِيلَةَ فِي الزَّمَنِ الْقَصِيرِ وَلِذَلِكَ تُؤْخَذُ عَنْهُمْ أَخْبَارُ الْوَقَائِعِ وَالْحَوَادِثِ فِي الْبِلَادِ الْبَعِيدَةِ عَنَّا بِسَبَبِ سُرْعَةِ حَرَكَتِهِمْ وَتَنَقُّلِهِمْ عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ وَاِتَّخَذَهُمْ سُلَيْمَانُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - لِأَعْمَالٍ تَعْجِزُ عَنْهَا الْبَشَرُ بِسَبَبِ فَرْطِ قُوَّتِهِمْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {يَعْمَلُونَ لَهُ مَا يَشَاءُ مِنْ مَحَارِيبَ وَتَمَاثِيلَ وَجِفَانٍ كَالْجَوَابِ} [سبأ: 13] وَلَهُمْ قُوَّةُ التَّنَقُّلِ عَلَى التَّصَوُّرِ فِي كُلِّ حَيَوَانٍ أَرَادُوا فَتَقْبَلُ بِنْيَتُهُمْ التَّنَقُّلَ إلَى الْحَيَّاتِ وَالْكِلَابِ وَالْبَهَائِمِ وَصُوَرِ بَنِي آدَمَ وَهَذَا لَا يَتَأَتَّى إلَّا مَعَ جَوْدَةِ الْبِنْيَةِ وَلَطَافَةِ التَّرْكِيبِ وَبِنْيَتُنَا نَحْنُ لَا تَقْبَلُ شَيْئًا مِنْ هَذَا لِأَنَّا خُلِقْنَا مِنْ تُرَابٍ شَأْنُهُ الثُّبُوتُ وَالرَّصَافَةُ وَالدَّوَامُ عَلَى حَالَةٍ وَاحِدَةٍ وَخُلِقُوا مِنْ نَارٍ شَأْنُهَا التَّحَرُّكُ وَسُرْعَةُ الِانْتِقَالِ وَاللَّطَافَةُ وَهَذَا الْمَعْنَى هُوَ الَّذِي غَرَّ إبْلِيسَ فَأَوْجَبَ لَهُ الْكِبْرَ عَلَى آدَمَ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْه وَتَرَكَ أَنَّ اللَّهَ يُفَضِّلُ مَنْ يَشَاءُ عَلَى مَنْ يَشَاءُ وَيَحْكُمْ مَا يُرِيدُ فَجَاءَ بِالِاعْتِرَاضِ فِي غَيْرِ مَوْضِعِهِ فَهَلَكَ اهـ.
وَفِي كِتَابِ مُسَامَرَةِ الْأَخْيَارِ لِلشَّيْخِ الْأَكْبَرِ مُحْيِي الدِّينِ بْنِ عَرَبِيٍّ - قُدِّسَ سِرُّهُ - خَبَرُ الْحَيَّةِ الطَّائِفَةِ بِالْبَيْتِ عَنْ أَبِي الطُّفَيْلِ قَالَ كَانَتْ امْرَأَةٌ مِنْ الْجِنِّ فِي الْجَاهِلِيَّةِ تَسْكُنُ ذَا طُوًى وَكَانَ لَهَا ابْنٌ وَلَمْ يَكُنْ لَهَا وَلَدٌ غَيْرُهُ وَكَانَتْ تُحِبُّهُ حُبًّا شَدِيدًا وَكَانَ شَرِيفًا فِي قَوْمِهِ فَتَزَوَّجَ وَأَتَى زَوْجَتَهُ فَلَمَّا كَانَ يَوْمُ سَابِعِهِ قَالَ لِأُمِّهِ يَا أُمَّهْ إنِّي أُحِبُّ أَنْ أَطُوفَ بِالْكَعْبَةِ سَبْعًا نَهَارًا قَالَتْ لَهُ أُمُّهُ: أَيْ بُنَيَّ إنِّي أَخَافُ عَلَيْك سُفَهَاءَ قُرَيْشٍ فَقَالَ أَرْجُو السَّلَامَةَ فَأَذِنَتْ لَهُ فَوَلَّى فِي صُورَةِ جَانٍّ فَلَمَّا أَدْبَرَ جَعَلَتْ تُعَوِّذُهُ وَتَقُولُ

الصفحة 225