كتاب العواصم والقواصم في الذب عن سنة أبي القاسم (اسم الجزء: 2)

النظر السابع: وهو أوَّلُ الجوابِ بطريق التحقيق دونَ مُجَرَّدِ المعارضة، وذلك أن نقول: ليس الحِبْرُ البرَّاق يُسمَّى علماً، ولا المجلداتُ والأوراق تُسمَّى اجتهاداً، وإنما العلمُ الذي في الصدور، لا الذي في المسطور، ومحلُّ الاجتهادِ في القلوب لا في الكاغَدِ المكتوب، فكيف يلزم أن يُقال -إذا سُرِقَتْ كُتُبُ العالِم-: إنَّه سُرِقَ عِلْمُهُ، واغتُصِبَ، ومُنِعَ منه، ونُهِبَ؟. ومتى صح أن علم المجتهد هو مجموع العفص (¬1) والزاج، والجلود والأوراق حتى إذا سُرِقَتْ، لزم أن يُسْرَقَ علمه، وإذا اغتُصِبَتْ، وَجَبَ أَن يُغْتَصَبَ اجتهادُه، فإن كان السيدُ ادَّعى أنه ما درى كيف يُقال، ولا عَرَفَ ما العبارةُ في تلك الحالِ، فهذا تعنُّتٌ شديدٌ، ونزوح عن الإنصاف إلى مكان بعيد.
وأظرف السوقة يعرف أنَّه يقال: سُرِقَتْ كُتُبُه، واغتصبت منه ونُهِبَت. وهذه العبارة كافية في هذه الواقعة متى وقعت، ولم يَزَلِ الناسُ يعَبِّرُونَ بها، وما عَلِمْنَا أنَّ أحداً من أهل اللغة العربية ولا مَنْ قبلَهم، ولا مَنْ بعدهم مِن جميع الملل والنحل والمذاهب والفِرَقِ في قديم الزمان وحديثِه إذا ضاع لَهُ كِتَابٌ، قال: مَنْ وَجَدَ عِلمي، فإنه ضلَّ عنِّي، ولا إِذا اغتُصِبَ عليه كتاباً يقول: فلان اغْتَصَبَ اجتهادي، ولا انتهب فنّي.
وكذلك مَنْ وجد كتاباً ضائعاً، وأراد التعريفَ به، فإنه يقول: مَنْ ضاعَ له كتاب ونحو ذلك مِن معروف الخطاب، ولا يقول: من ضاع له علم، ولا مَنْ سَقَطَ عليه اجتهاد. وهذه التعسُّفَاتُ في العبارات والأساليب المبتدعات لا تُفيد العلم لمن نظر فيها طالباً للهدى متثبتاً، ولا يأتي بخير
¬__________
(¬1) العفص: ثمر شجر البلوط يتخذ منه الحبرُ والصبغ، والزاح: فارسي معرب، قال الليث: يقال له: الشبُّ اليماني، وهو من الأدوية، وهو من أخلاط الحبر.

الصفحة 14