كتاب مفتاح دار السعادة ومنشور ولاية العلم والإرادة (اسم الجزء: 2)
وَاجْتنَاب مَحَارمه بِمثل الصَّوْم فَهُوَ شَاهد لمن شَرعه وَأمر بِهِ بِأَنَّهُ أحكم الْحَاكِمين وأرحم الرَّاحِمِينَ وَأَنه إِنَّمَا شَرعه إحسانا إِلَى عباده وَرَحْمَة بهم ولطفا بهم لَا بخلا عَلَيْهِم برزقه وَلَا مُجَرّد تَكْلِيف وتعذيب خَال من الْحِكْمَة والمصلحة بل هُوَ غَايَة الْحِكْمَة وَالرَّحْمَة والمصلحة وَإِن شرع هَذِه الْعِبَادَات لَهُم من تَمام نعْمَته عَلَيْهِم وَرَحمته بهم 0 وَأما الْحَج فشأن آخر لَا يُدْرِكهُ إِلَّا الحنفاء الَّذين ضربوا فِي الْمحبَّة بِسَهْم وشأنه أجل من أَن تحيط بِهِ الْعبارَة وَهُوَ خَاصَّة هَذَا الدّين الحنيف حَتَّى قيل فِي قَوْله تَعَالَى {حنفَاء لله غير مُشْرِكين} أَي حجاجا وَجعل الله بَيته الْحَرَام قيَاما للنَّاس فَهُوَ عَمُود الْعَالم الَّذِي عَلَيْهِ بِنَاؤُه فَلَو ترك النَّاس كلهم الْحَج سنة لخرت السَّمَاء على الأَرْض هَكَذَا قَالَ ترجمان الْقُرْآن ابْن عَبَّاس فالبيت الْحَرَام قيام الْعَالم فَلَا يزَال قيَاما مَا زَالَ هَذَا الْبَيْت محجوجا فالحج هُوَ خَاصَّة الحنيفة ومعونة الصَّلَاة وسر قَول العَبْد لَا إِلَه إِلَّا الله فَإِنَّهُ مؤسس على التَّوْحِيد الْمَحْض والمحبة الْخَالِصَة وَهُوَ استزارة المحبوب لأحبابه ودعوتهم إِلَى بَيته وَمحل كرامته وَلِهَذَا إِذا دخلُوا فِي هَذِه الْعِبَادَة فشعارهم لبيْك اللَّهُمَّ لبيْك إِجَابَة محب لدَعْوَة حَبِيبه وَلِهَذَا كَانَ لِلتَّلْبِيَةِ موقع عِنْد الله وَكلما أَكثر العَبْد مِنْهَا كَانَ أحب إِلَى ربه وأحظى فَهُوَ لَا يملك نَفسه أَن يَقُول لبيْك لبيْك حَتَّى يَنْقَطِع نَفسه 0 وَأما أسرار مَا فِي هَذِه الْعِبَادَة من الْإِحْرَام وَاجْتنَاب العوائد وكشف الرَّأْس وَنزع الثِّيَاب الْمُعْتَادَة وَالطّواف وَالْوُقُوف بِعَرَفَة وَرمى الْجمار وَسَائِر شَعَائِر الْحَج فمما شهِدت بحسنه الْعُقُول السليمة وَالْفطر المستقيمة وَعلمت بِأَن الَّذِي شرع هَذِه لَا حِكْمَة فَوق حكمته وسنعود أَن شَاءَ الله إِلَى الْكَلَام فِي ذَلِك مَوْضِعه 0
وَأما الْجِهَاد فناهيك بِهِ من عبَادَة هِيَ سَنَام الْعِبَادَات وذروتها وَهُوَ المحك وَالدَّلِيل المفرق بَين الْمُحب وَالْمُدَّعى فالمحب قد بذل مهجته وَمَاله لرَبه وإلهه متقربا إِلَيْهِ ببذل أعز مَا بِحَضْرَتِهِ يود لَو أَن لَهُ بِكُل شَعْرَة نفسا يبذلها فِي حبه ومرضاته وَيَوَد أَن لَو قتل فِيهِ ثمَّ أَحَي ثمَّ قتل ثمَّ أَحَي فَهُوَ يفْدي ثمَّ قتل بِنَفسِهِ حَبِيبه وَعَبده وَرَسُوله ولسان حَاله يَقُول 0
يفديك بِالنَّفسِ صب لَو يكون لَهُ ... أعز من نَفسه شَيْء فَذَاك بِهِ
فَهُوَ قد سلم نَفسه وَمَاله لمشتريها وَعلم أَنه لَا سَبِيل إِلَى أَخذ السّلْعَة إِلَّا ببذل ثمنهَا {إِن الله اشْترى من الْمُؤمنِينَ أنفسهم وَأَمْوَالهمْ بِأَن لَهُم الْجنَّة يُقَاتلُون فِي سَبِيل الله فيقتلون وَيقْتلُونَ} وَإِذا كَانَ من الْمَعْلُوم المستقر عِنْد الْخلق أَن عَلامَة الْمحبَّة إِلَّا لَهُ وكل محبَّة الصَّحِيحَة بذل الرّوح وَالْمَال فِي مرضات المحبوب فالمحبوب الْحق الَّذِي لَا تنبغي الْمحبَّة إِلَّا لَهُ وكل محبَّة سوى محبته فالمحبة لَهُ بَاطِلَة أولى بِأَن يشرع لِعِبَادِهِ الْجِهَاد الَّذِي هُوَ غَايَة مَا يَتَقَرَّبُون بِهِ إِلَى إلههم وربهم وَكَانَت قرابين من قبلهم من الْأُمَم فِي ذَبَائِحهم وقرابينهم تَقْدِيم أنفسهم للذبح فِي الله مَوْلَاهُم الْحق فَأَي حسن يزِيد على حسن هَذِه الْعِبَادَة وَلِهَذَا ادخرها الله لأكمل الْأَنْبِيَاء وأكمل الْأُمَم عقلا وتوحيدا ومحبة لله 0
الصفحة 4
276