كتاب شرح العمدة لابن تيمية - كتاب الحج (اسم الجزء: 2)

وَأَحْكَامُ جَمْعٍ - مُضْطَرِبَةٌ - تَتَلَخَّصُ فِي مَسَائِلَ:
الْأُولَى: أَنَّ الْوُقُوفَ بِهَا وَاجِبٌ فِي الْجُمْلَةِ ; لِمَا تَقَدَّمَ.
الثَّانِيَةُ: أَنَّهُ لَيْسَ بِرُكْنٍ فَمَنْ فَاتَهُ الْوُقُوفُ بِهَا حَتَّى طَلَعَتِ الشَّمْسُ لِعُذْرٍ صَحَّ حَجُّهُ، وَإِنْ تَعَمَّدَ تَرْكَ إِتْيَانِهَا، أَوْ سَلَكَ إِلَى مِنًى غَيْرَ طَرِيقِهَا، فَكَلَامُهُ يَقْتَضِي رَوَا ..... ، يَنْظُرُ أَلْفَاظَ الْأَحَادِيثِ ; وَذَلِكَ لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لَمَّا سَأَلُوهُ وَهُوَ وَاقِفٌ بِعَرَفَةَ كَيْفَ؟ فَقَالَ: " «الْحَجُّ عَرَفَةَ، مَنْ جَاءَ لَيْلَةَ جَمْعٍ قَبْلَ طُلُوعِ الْفَجْرِ فَقَدْ أَدْرَكَ الْحَجَّ» " وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ لَوْ كَانَ الْحَجُّ يَفُوتُ بِفَوَاتِ الْمُزْدَلِفَةِ: لَمَا قَالَ: " «الْحَجُّ عَرَفَةُ» "، بَلْ قَالَ: الْحَجُّ عَرَفَةُ وَمُزْدَلِفَةُ.
وَقَوْلُهُ: مَنْ جَاءَ لَيْلَةَ جَمْعٍ قَبْلَ طُلُوعِ الْفَجْرِ فَقَدْ أَدْرَكَ الْحَجَّ: يَدُلُّ عَلَى أَمْنِ الْفَوَاتِ ; لِأَنَّ مَنْ أَدْرَكَ الْعِبَادَةَ لَا تَفُوتُهُ الْبَتَّةَ، وَلَوْ كَانَ تَرْكُ الْوُقُوفِ بِمُزْدَلِفَةَ يُفَوِّتُ الْحَجَّ، لَمْ يَكُنِ الْوَاقِفُ بِعَرَفَةَ مُدْرِكًا. وَهَذَا كَقَوْلِهِ: " «مَنْ أَدْرَكَ رَكْعَةً قَبْلَ أَنْ تَطْلُعَ الشَّمْسُ فَقَدْ أَدْرَكَ الْفَجْرَ» " نَعَمْ. يُمْكِنُ أَنْ يُوجَدَ بَعْدَ الْإِدْرَاكِ مَا يُبْطِلُ الْعِبَادَةَ، وَلَا يُبْطِلُ الْحَجَّ إِلَّا الْوَطْءُ. فَأَمَّا تَرْكُ وَاجِبٍ مُؤَقَّتٍ يَكُونُ تَرْكُهُ فَوَاتًا لِلْحَجِّ فَلَا. أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَمَّا أَرَادَ أَنْ يُبَيِّنَ مَا بِهِ يَتِمُّ الْحَجُّ قَالَ: " «مَنْ شَهِدَ مَعَنَا هَذِهِ الصَّلَاةَ، وَوَقَفَ مَعَنَا حَتَّى نَدْفَعَ، وَقَدْ وَقَفَ بِعَرَفَةَ قَبْلَ ذَلِكَ لَيْلًا أَوْ نَهَارًا - فَقَدْ تَمَّ حَجُّهُ وَقَضَى تَفَثَهُ» ". فَجَعَلَ الْوُقُوفَ بِمُزْدَلِفَةَ بَعْدَ التَّعْرِيفِ، بِهِ يَتِمُّ الْحَجُّ، وَيُقْضَى التَّفَثُ، إِذْ لَمْ يَبْقَ بَعْدَهُ إِلَّا التَّحَلُّلُ بِرَمْيِ جَمْرَةِ الْعَقَبَةِ وَمَا بَعْدَهُ، فَعُلِمَ بِهَذَيْنِ الْحَدِيثَيْنِ أَنَّهُ بِالْوُقُوفِ بِعَرَفَةَ يُدْرِكُ الْحَجَّ، وَيُؤْمَنُ فَوَاتُهُ، فَلَوْ كَانَ بَعْدَهُ رُكْنٌ مُؤَقَّتٌ لَمْ يُدْرَكْ، وَلَمْ يُؤْمَنِ الْفَوَاتُ، وَبِالْوُقُوفِ بِمُزْدَلِفَةَ يَتِمُّ الْحَجُّ، وَيُقْضَى التَّفَثُ.

الصفحة 609