كتاب في الأدب الحديث (اسم الجزء: 2)

حفلة بغير قصيدة لشوقي أو حافظ، كما أننا لا نتصور عيدًا أو مأتمًا بغير مغنٍ أو مرتل قرآن. فأما الشعر الذي يقال لنفسه، الذي يقال ليحلو مظهرًا من مظاهر الجمال الطبيعي. الذي يقال ليكون صلة بين نفس الشاعر ونفس القراء، الذي يقال لا يلتملق عاطفة من العواطف، أو هوى من الأهواء، فلا تلتمسه عندنا، ولكن التمسه عند قوم آخرين عرف شعراؤهم لأنفسهم كرامتها فربئوا بها عن أن تكون أداة للهو والزينة"1.
وكان جمهور المثقفين يطرب لهذا النوع من الأدب؛ لأنه لا يعر ف غيره، ولأنه يحاكي تلك الألوان التي عرفها في المدرسة من الأدب العربي القديم، ووعتها حافظته. وفضلًا عن هذا كله فإن هذا النوع من الأدب كان نتيجة لازمة للتربية الإنجليزية في مصر، التي اهتمت بتنمية الذاكرة، وقدرتها على الاستيعاب، وأهملت المواهب الإنسانية الأخرى كالتفكير والتأمل، ودقة الملاحظة، والابتكار العقلي، والحرية في الرأي.
ويقول مستر "مان" في تقريره عن التعليم في مصر زمن الإنجليز: "يشهد الإنسان التلاميذ بالمدارس المصرية مشتغلين في الغالب. إما بالإصغاء إلى المعلم، وإما بتدوين مذكرات، أو تذكر ما استظهروا، وإما بعمل تمرينات متماثلة، وبسرعة واحدة، وتحت رقابة صارمة، ويندر أن يقع النظر على التلاميذ يعملون عملًا مستقلًا، أو يطالعون مطالعة خاصة".
ويقول في موضع آخر من تقريره: "إن من الأمور البديهية التي لا تحتاج إلى التدليل أن طريقة الاستظهار ليست بالطريقة الصالحة لتحصيل العلم، إذ إن كل محاولة لاستعمال قوة الحفظ، وهي من المدارك الدنيا -بدلًا من قوة الفهم- وهي من المدارك العليا، لا بد من أن تؤدي إلى إضعاف قوى التصور، والتعقل والاستنباط؛ لأن الملكات التي لا تستخدم يصيبها الوهن2.
__________
1 الدكتور طه حسين: حافظ وشوقي ص 149- 150.
2 تقرير مستر "مان" ص 42.

الصفحة 31