كتاب في الأدب الحديث (اسم الجزء: 2)
لا يتعلم كما يتعلم الطفل الأوربي طرق كلامه المألوف وقراءته فحسب، وإنما يتعلم لغة أخرى شديدة الصعوبة، تختلف عن لغته المعتادة اختلافًا بينًا: ويتعلم في ذات الوقت كتابتها وقراءتها، فحالته هذه تشبه حال طفل إنجليزي يتكلم ويسمع اللغة الإنجليزية العادية في المنزل والشارع والمدرسة على السواء ولكنه مضطر ألا يستعمل في القراءة والكتابة إلا اللغة الإنجليزية التي كانت شائعة في عصر ألفريد الأكبر".
ويقول بعد ذلك: "إن هذه الطريقة من شأنها أن توقف نمو التفكير عند الطفل"، ولكن هل تعلم الطفل المصري في المدرسة اللغة الإنجليزية في جميع مواد الدراسة، وهو يتكلم ويسمع اللغة المصرية الدارجة، ولا يوجد بين اللغة الإنجليزية والمصرية الدارجة أي صلة؛ ثم تعلم قراءتها وكتابتها أيسر عليه من تعلم اللغة الفصحى؟ لا يرى أن هذه الطريقة التي أرغم عليها أطفال المصريين لا توقف نمو تفكيرهم فحسب، ولكنها تقتل كل الملكات العقلية من تصور وإدراك واستنباط وتفكير؟ أنسي مسترمان، ومن دعا هذه الدعوة أن أطفال الأوربيين أنفسهم يتعلمون في المدرسة لغة تختلف عن لغة البيت والشارع في الغالب، وأن لكل أمة لهجة دارجة، وأخرى فصيحة؟ ووجود اللهجات الدارجة أمر طبيعي، فلو اتخذت أمة لغتها العامية الحالية أداة للتعبير والكتابة، ووضعت لها القواعد، وصنفت فيها الكتب لتحلل الناس بعد أمد يسير من هذه القواعد في النطق والتركيب، وأوجدوا لهم لغة دارجة لا تتقيد بقوانين، تخفيفًا عن أنفسهم، وجريًا على عادة التساهيل والإهمال والنسيان!!
ثم إن ثمة اعتبارات كثيرة خاصة باللغة العربية الفصحى تتعلق بالدين، والقرآن الكريم وتتعلق بوشائج القربى بيننا وبين الناطقين بها، فلو عمد كل شعب عربي إلى اتخاذ لغته الدارجة وسيلة للكتابة والتعبير لتقطعت بيننا هذه الوشائج. وتبددت قوانا المادية والمعنوية على مر الأيام. ويظهر أن مستر "مان" فطن إلى هذه الاعتبارات، وأدرك جم الصعوبات التي تقف في سبيل اللغة العامية، وأن اللغة الفصحى لا بد منتصرة في النهاية على الرغم من تلك الدعاية القوية التي أثيرت ضدها من الإنجليز وأشياعهم. فقال: "على أني أعترف في الوقت أن مسألة اللغة هذه مشبكة بجميع أنواع التقاليد الدينية والقومية والاجتماعية اشتباكًا لا فكاك منه، وأنها لهذا السبب أعسر من أن تحل استنادًا إلى الاعتبارات التربوية وحدها1".
__________
1 تقرير مستر مان.
الصفحة 49
470