كتاب أصول السرخسي (اسم الجزء: 2)

لِأَن الله تَعَالَى لما خلق الْإِنْسَان لحمل أَمَانَته أكْرمه بِالْعقلِ والذمة ليَكُون بهَا أَهلا لوُجُوب حُقُوق الله تَعَالَى عَلَيْهِ ثمَّ أثبت لَهُ الْعِصْمَة وَالْحريَّة والمالكية ليبقى فيتمكن من أَدَاء مَا حمل من الْأَمَانَة ثمَّ هَذِه الْحُرِّيَّة والعصمة والمالكية ثَابِتَة للمرء من حِين يُولد الْمُمَيز وَغير الْمُمَيز فِيهِ سَوَاء فَكَذَلِك الذِّمَّة الصَّالِحَة لوُجُوب الْحُقُوق فِيهَا ثَابتا لَهُ من حِين يُولد يَسْتَوِي فِيهِ الْمُمَيز وَغير الْمُمَيز ثمَّ كَمَا يثبت الْوُجُوب بِوُجُود السَّبَب شرعا فِي مَحَله تثبت الْحُرْمَة يَعْنِي الْحُرْمَة بِالنّسَبِ وَالرّضَاع والمصاهرة وَتلك الْحُرْمَة تثبت فِي حق الْمُمَيز وَغير الْمُمَيز لوُجُود السَّبَب بعد صَلَاحِية الْمحل وَإِن كَانَ ذَلِك حكما شَرْعِيًّا فَكَذَلِك الْوُجُوب ثمَّ وجوب الْأَدَاء بعد هَذَا يكون بِالْأَمر الثَّابِت بِالْخِطَابِ وَذَلِكَ لَا يكون إِلَّا بعد اعْتِدَال الْحَال وَالْعلم بِهِ وَقد بَينا أَن الْمُطَالبَة بأَدَاء الْوَاجِب غير أصل الْوُجُوب وَهُوَ تَأْوِيل الحَدِيث الْمَرْوِيّ (رفع الْقَلَم عَن ثَلَاث) فَالْمُرَاد بالقلم الْحساب وَذَلِكَ يَنْبَنِي على وجوب الْأَدَاء (دون أصل الْوُجُوب كَمَا فِي الدّين الْمُؤَجل إِنَّمَا تكون المحاسبة بعد وجوب الْأَدَاء) بِمُضِيِّ الْأَجَل وأصل الْوُجُوب ثَابت لوُجُود سَببه
وَزعم بعض مَشَايِخنَا أَن الْوُجُوب لَا يثبت إِلَّا بعد اعْتِدَال الْحَال بِالْبُلُوغِ عَن عقل لِأَن الْمُوجب هُوَ الله تَعَالَى لما خَاطب بِهِ عباده من الْأَمر وَالنَّهْي وَحكم هَذَا الْخطاب لَا يثبت فِي حق الْمُخَاطب مَا لم يعلم بِهِ علما مُعْتَبرا فِي الْإِلْزَام شرعا وَذَلِكَ إِنَّمَا يكون بعد اعْتِدَال الْحَال
وَمن جعل السَّبَب مُوجبا فقد أخلى صِيغَة الْأَمر عَن حكمه لِأَن حكم الْأَمر الْمُطلق الْوُجُوب واللزوم وَإِذا كَانَ الْوُجُوب ثَابتا بِالسَّبَبِ قبل ثُبُوت الْخطاب فِي حَقه لم يبْق لِلْأَمْرِ حكم فَيُؤَدِّي هَذَا إِلَى القَوْل بِأَنَّهُ لَا فَائِدَة فِي أوَامِر الله تَعَالَى ونواهيه وَأي قَول أقبح من هَذَا وَلِأَنَّهُ لَا يفهم من الْوُجُوب شَيْء سوى وجوب الْأَدَاء وَذَلِكَ لَا يكون إِلَّا بعد اعْتِدَال الْحَال وَهُوَ حكم الْأَمر بالِاتِّفَاقِ فَعرفنَا أَن الْوُجُوب كَذَلِك فَكَانَت الْأَسْبَاب بِمَنْزِلَة العلامات فِي حَقنا لنعرف بظهورها الْوُجُوب بِحكم

الصفحة 334