كتاب الأزهر في ألف عام (اسم الجزء: 2)

أن القرآن هو كلام اللّه، وأنه كتاب الوجود. تعلمون مقدار ما بذلته وتبذله العقول في استخراج جواهره منذ أنزل إلى اليوم، ولا يتم للعقل استقصاء كل ما فيه وتحديده بالدقة ما دام الوجود قائما، ولكن العقل يأخذ منه ما استكمل به وجوده، وطمأنينته في الدنيا والآخرة على قدر فهمه. ومن هنا تعددت آراء المفسرين لاختلاف وجوه النظر، ولذلك كان تفسير القرآن في أكثر العصور فن علم وجدل، مع أن التفسير يجب ان يكون زبدا مستخلصا بالمقاييس العلمية الصحيحة المستمدة من الفن والبحث، كما أن التفسير الذي لا يعتمد على مقاييس العلم والعقل، لا يسمى على الحقيقة تفسيرا للقرآن الكريم. ويجب أن يدخل في مقاييس العلم ما يستظهره العقل من أسرار الوجود بالدلائل القاطعة، وليس من التفسير مظاهر الحياة التي تعتمد على نزعات النفس في إنسانيتها الضعيفة المضطربة. وهذا هو ما وفق إليه الراحل الكريم في تفسيره للقرآن، وفي علاجه للأبحاث الدينية، فقلما كان يتعرض السيد رشيد لبحث ما يتصل بالقرآن اتصالا جوهريا إلا بقدر ما تمس له الحاجة. وكثيرا ما كان يتعرض لأقوال المفسرين، وما يستدلون به ولكنه لم يترك القرآن في المكان الذي تتجاذبه فيه الآراء كما فعل أكثر المفسرين، بل كان في تفسيره يستخلص القرآن للعقل مؤيدا باللغة وبالشواهد والأدلة من ظواهر الوجود. وأول من فتح هذا الطريق وعبده الأستاذ الإمام رضي اللّه عنه، وقد سار فيه تلميذه صاحب الذكرى شوطا بعيدا انتهى فيه إلى آخر سورة يوسف عليه الصلاة والسلام، وقد فسر من القرآن على هذا المنوال الحكيم اثني عشر جزءا، وهي أصعب أجزاء القرآن فهما واستنباطا، وكان آخر آية فسرها من سورة يوسف ومات على أثر تفسيره لها قوله تعالى: رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ اَلْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ اَلْأَحادِيثِ فاطِرَ اَلسَّماواتِ وَاَلْأَرْضِ أَنْتَ وَلِيِّي فِي اَلدُّنْيا وَاَلْآخِرَةِ تَوَفَّنِي مُسْلِماً وَأَلْحِقْنِي بِالصّالِحِينَ.
وقال في رثائه الشاعر الحاج محمد الهراوي:
أي صرح هوى وحصن حصين ... ولواء طوته أيدي المنون

الصفحة 39