وأقول: إنّ قربك زيدا، تقديره: فى قربك، ولم يجز: إنّ بعدك زيدا، لأنهم لم يصرّفوا البعد تصريف القرب، فيقولوا: إن فى بعدك زيدا؛ لعلّة أذكرها لك:
قال النحويّون: إنما صار الدّنوّ أشدّ تمكّنا؛ لأن الظروف موضوعة على القرب، أو على أن يكون ابتداؤها من قرب، فالموضوع على القرب: عند ولدن، وما كان فى معناهما، يريدون بما كان فى معناهما: صددك وصقبك (¬1) وتجاهك وإزاءك وحذاءك وتلقاءك وقبلك (¬2) وقبالتك، ونحو ذلك.
وأمّا ما يكون ابتداؤه من قرب: فالجهات المحيطة بالأشياء، كقدّام وخلف ويمنة ويسرة وفوق وتحت، فإذا قلت: زيد خلف عمرو، فهو مطلوب خلفه من أقرب ما يليه؛ لأنّ للقرب حدّا، والبعد لا نهاية له ولا حدّ.
ويكشف هذا أننا إذا قلنا: قربك زيد، طلبه المخاطب فيما قرب منه، وذلك ممكن مفهوم، وإذا قلنا: بعدك زيد، لم يمكن ذلك فيه.
ونذكر ما قاله المفسّرون فى تذكير {قَرِيبٌ} مع تأنيث الرحمة، من قوله تعالى: {إِنَّ رَحْمَتَ اللهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ} (¬3) قال أبو إسحاق الزجّاج: إنما قيل
¬_________
(¬1) فى الكتاب 1/ 407،411 «سقبك» بالسين، وكلاهما صواب، فالسّين والصاد يتعاقبان. ومعناهما القرب. والصّدد: القصد.
(¬2) فى الأصل: «قبلتك» وأثبت ما فى د، ومثله فى الصحاح، وهو بضم القاف.
(¬3) سورة الأعراف 56، وقد شغلت هذه الآية أهل العلم من المفسّرين والمعربين واللغويّين، وممّن أطال الكلام فيها الإمام ابن قيّم الجوزيّة، فقد ذكر فيها اثنى عشر وجها. انظر بدائع الفوائد 3/ 18، وما بعدها. وانظر معانى القرآن للفراء 1/ 380، وتفسير الطبرى 12/ 488، والبحر 4/ 312، والقرطبى 7/ 227، وسائر كتب التفسير وإعراب القرآن، والمذكر والمؤنث لابن الأنبارى ص 462، والتنبيه والإيضاح، المعروف بحاشية ابن برّى على الصحاح 1/ 126، والمغنى ص 512. هذا ولابن هشام رسالة أفردها فى هذه المسألة. وقد نشرت باسم (مسألة الحكمة فى تذكير قريب فى قوله تعالى: إِنَّ رَحْمَتَ اللهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ نشرها الدكتور عبد الفتاح الحموز. دار عمار. الأردن. وقد ذكرها السيوطى فى الأشباه والنظائر 3/ 268، مع ما ذكره من أقوال العلماء.