كتاب المعتمد في أصول الفقه (اسم الجزء: 2)

جمعتم بَين الْأَمريْنِ بِغَيْر عِلّة وَأَيْضًا فَإِن أوحى الله تَعَالَى إِلَى نبيه بِأحد الدَّلِيلَيْنِ فَيسنّ الحكم عَقِيبه ثمَّ أوحى إِلَيْهِ بِالدَّلِيلِ الثَّانِي فَإِنَّهُ إِنَّمَا يسن الحكم لمَكَان الدَّلِيل الأول لِأَنَّهُ لم يكن سواهُ حِين سنّ الحكم وَيكون الدَّلِيل الثَّانِي تَأْكِيدًا وَإِن كَانَ قد أوحى إِلَيْهِ بهما مَعًا فَلَا بُد من أَن يكلفه فهم المُرَاد بهما وَلَا بُد من أَن يفهم المُرَاد بهما فَلَا يجوز أَن يَدعُوهُ أَحدهمَا إِلَى أَن يسن الحكم دون الآخر لِأَن فِي ذَلِك رفضا للْآخر وَإِنَّمَا قُلْنَا لَا بُد من أَن يكلفه أَن يفهم المُرَاد بهما لِأَنَّهُ لَا يجوز أَن يخاطبه بِمَا لَا يفهم المُرَاد مِنْهُ وَلِأَنَّهُ إِن كلفه أَن يبلغ كلا الدَّلِيلَيْنِ إِلَى أمته وَجب أَن يفهم المُرَاد بِهِ لِأَنَّهُ لَا يُؤمن أَن يسْأَل عَنهُ وَإِذا لم يعرف المُرَاد بِهِ نفر عَنهُ
وَمِنْهَا أَنه لَو كَانَ الدَّلِيل الثَّانِي صَحِيحا لما جَازَ أَن يذهب عَن الصَّحَابَة مَعَ تقدمها فِي الْعلم وَالْجَوَاب أَنه يجوز أَن يذهب عَنْهُم إِذا لم يطلبوه اسْتغْنَاء بِمَا ظفروا بِهِ من الدَّلِيل وَأهل الْعَصْر الثَّانِي إِنَّمَا ظفروا بِهِ لأَنهم تنبهوا بِمَا ذكره الْأَولونَ واستغنوا عَن طلب الدَّلِيل الأول فشغلوا أفكارهم وزمانهم فِي طلب غَيره
فَإِن قيل أفكلف الْأَولونَ طلب الدَّلِيل الثَّانِي قيل كلفوا ذَلِك على سَبِيل التَّطَوُّع وَترك ذَلِك جَائِز وَالْقَوْل فِي الْعلَّة كالقول فِي الدّلَالَة لِأَن الْعلَّة دلَالَة على الحكم فِي الْفَرْع إِلَّا أَن تعود الْعلَّة بِالنَّقْضِ على مَا اجْتَمعُوا عَلَيْهِ بِأَن يُوجد فِي مَوضِع أَجمعت الْأمة فِيهِ على نقيض حكمهَا نَحْو أَن يُعلل مُعَلل تَحْرِيم الْبر بِأَنَّهُ جسم لِأَن ذَلِك مَوْجُود فِيمَا أَجمعُوا على إِبَاحَته فَمن لم يقل بتخصيص الْعلَّة لَا يُجِيز ذَلِك
وَأما إِذا تأولت الْأمة الْآيَة بِتَأْوِيل فَإِنَّهُم إِن نصوا على فَسَاد مَا عداهُ لم يجز إِحْدَاث تَأْوِيل سواهُ وَإِن لم ينصوا على ذَلِك فَمن النَّاس من منع من تاويل زَائِد وأجراه مجْرى الْمَذْهَب الزَّائِد وَمِنْهُم من أجَازه وَهُوَ الصَّحِيح لِأَن التَّابِعين وَمن بعدهمْ قد أَحْدَثُوا تأويلات لم يكن ذكرهَا السّلف وَلم يُنكر عَلَيْهِم وَلِأَنَّهُ لَيْسَ فِي إِحْدَاث تَأْوِيل آخر مُخَالفَة لإجماعهم لأَنهم لم ينصوا على إِبْطَاله وَلَيْسَ فِي

الصفحة 53