كتاب التنكيل - دار المعارف (اسم الجزء: 2)

يجزم بصحته وبطلان ما يخالفه)). (1) ولم يجب مخالفوهم إلا بقولهم: ((الجواب أنه لا يدل على كون الكل كذلك)). فإذا كانت كثرة الممارسة للباطل قد تورث الجزم ببطلان ما يخالفه فكيف لا تورث ما ذكره الغزالي هنا بقوله: ((ربما حصل لك الإنس)) وإذا وجب أن لا يعتد بالجزم الحاصل عن طول الممارسة فكيف يعتد باحتمال حصول الإنس؟ ولو كان هذا كافياً للتشكيك في البديهيات، وخشية أن تكون وهمية لثبب القدح في عامة البديهيات وطوي بساط العقل وحقت السفسطة، وقد تقدم في الباب الأول (2) قولهم في الجواب عن شبهات القادحين في البديهيات: ((ولا نشتغل بالجواب عنها لأن الأوليات مستغنية من أي يذب عنها، وليس يتطرف إلينا شك فيها بتلك الشبه التي نعلم أنها فاسدة قطعاً، وإن لم يتيقن عندنا وجه فاسدها)). أفلا يكفي مثبتي الأينية (3) أن يجيبوا عما سماه الغزالي أدلة بمثل هذا؟
فإن قيل: إن من تلك الأدلة البراهين على وجوب واجب الوجود لنه لا يصح كونه واجب الوجود إلا إذا لم يكن له أين فجمودهم على تلك القضية يقتضي نفي وجود واجب الوجود.
قلت: البراهين الصحيحة على وجوده لا تقيد بعدم الأين، بل منها ما يقتضي بوجوده مع ثبوت الأين له، فأما المقاييس التي يتشبث بها النفاة فهي من الشبهات التي نتيقن فسادها وإن فرض أنه لم يتعين لنا وجهه.
أقول: وفي هذا مع الأدلة الشرعية ما يكفي الراغب في الحق الخاضع له، فلا حاجة بنا إلى التشاغل بتلك الشبهات، ولكن أشير هاهنا إلى نكات:
الأولى: المتعمقون يقولون أن ذاك البارئ عز وجل مجردة، ثم منهم من يثبت ذوات كثيرة مجردة حتى عدوت منها الملائكة وأرواح الخلق، (4) ومنهم من يقتصر على تجويز ذلك، وردوا على من نفى ذلك محتجاً بأنه لو وجدت ذات أخرى مجردة لكانت مماثلة لذات الله عز وجل، بأن المشاركة في التجرد لا تقتضي المماثلة التي تستلزم اشتراك الذاتيين فيما يجب ويجوز ويمتنع.
__________
(1) تقدم ص 216.
(2) ص 218.
(3) أي المؤمنين بجواب ((أين الله)) وأنه في السماء فوق العرش مباين للخلق. م ع
(4) يعني أرواح بني آدم ويمونها النفوس الناطقة ولا يدخل في ذلك عندهم أرواح الحيوانات. م ع

الصفحة 353