كتاب التنكيل - دار المعارف (اسم الجزء: 2)

يكون الكون له جسماً واحداً مثلاً، وأن تتصور عدم الأجسام، وأن يكون الكون كله خلاء، (1) ولا تتصور ارتفاع الأمرين، وهذا يقضي بأن الخلاء أمر عدمي، فإن يعقل ارتفاع العدم بالوجود، ويستحيل ارتفاعهما معاً. (1) وظواهر النصوص الشرعية توافق هذا، فإنها تعرضت لخلق العالم في الخلاء، ولم تتعرض لخلق الخلاء، بل في عدة نصوص ما يقتضي أن الخلاء لم يكن مرتفعاً (2) فقط قبل وجود الملأ، ولا أعلم من سلف المسلمين قائلاً بأن الخلاء أمر وجودي، وانه لم يكن خلاء ولا ملأ حتى خلق الله تعالى ذلك. وقال لي قائل: هب أن زاعماً زعم أن الخلاء وجودي، وأنه قديم محذور في هذا؟ فإن الخلاء لا يصلح أن يكون منه تخليق ولا تدبير فلا يتوهم أن يكون هو رب العالمين أو مغنياً عنه أو شريكاً له، وقضية الافتقار إليه على فرض كونه واجباً لا ينافي الوجود، ولا تز عن الافتقار إليه على فرض أنه عدمي، وعلى الافتقار إلى المانع نحو ذلك.
وأقول: خير لمن يعرض له مثل هذا أن يعرض عن التفكير، ويستغني بما ثبت بالقواطع، وسيأتي لهذا مزيد. والله الموفق.
السادسة: من تدبر عبارة الغزالي علم أنه يعترف أن العرب والصحابة والتابعين وكل من لم تطل ممارسته لمزاعم الفلاسفة في التجرد (3) إذا أيقن أحدهم بوجود الله عز وجل فإنه يوقن بثبوت الأينية له ولابد، وإذ كانت الفطر قاضية بأنه سبحانه فوق سمواته، فإنهم يوقنون بذلك على ظاهره وحقيقته، فإذا سمعوا النصوص الشرعية الموافقة لذلك، فإنما يفهمون منها
__________
(1) بل العلوم التجريبية التي هي أصح من تفكير المتكلمين وأقيستهم قد ثبت فيها بما لا شك فيه أن بين الأجرام السماوية من شموس وكواكب خلاء حقيقي ففوق الأرض بنحو مائة كيلو متر بعد طبقة الهواء الأرضي خلاء صرف إلى ما يشاء الله تعالى لا يشغله غير الأجرام السماوية والحرارة والنور والأشعة الأخرى تأتي إلينا من مصادرها في خلاء صرف.
فليتخيل المتخيلون في هذا الخلاء الواسع الأطراف الذي لا يعلم حدوده إلا الله سبحانه ماشؤوا من خيالات القدم والحدوث والعدم فهو بحر تسبح فيه الأجرام السماوية سباحة الأسماك في البحار. م ع
(2) أي منفياً. م ع
(3) أي عموم بني آدم الذين لم يخرجوا عن سنن الفطرة التي فطر الله عليها عباده ولم تفسدها عليهم خيالات الفلاسفة والمتكلمين وهوسهم وأقيستهم الباطلة. م ع.

الصفحة 356