كتاب التنكيل - دار المعارف (اسم الجزء: 2)

ثالثاً قوله: ((تقصر عنه عقول العامة)) والحق أن العقول كلها تنبذه البتة، إلا أن من أرعبته شبه المخالفين لعظمتهم في وهمه وطالت ممارسته لها قد يأنس بالنفي الساقط كما تتقدم، وهذا الأنس إنما هو ضرب من للحيرة بل هو ضرب من الجنون، افرض أنك خرجت من بيتك وعلى رأسك عمامة فيلقاك رجل فيقول لك: لم خرجت بلا عمامة؟ فترى أنه يمازحك، قم يلقاك آخر فيقول لك نحو ما قال الأول، ثم يلقاك ثالث، ثم رابع ثم خامس وهكذا كل منهم يقول لك نحو مقالة الأول، ألا ترتاب في نفسك وتخاف أن تكون قد جننت حيث تعتقد أن على رأسك عمامة تراها وتلمسها وتحس بثقلها وهؤلاء كلهم ينفون ذلك، وينتهي بك الحال إلى أن تحاول أن تقنع نفسك بأنه ليس على رأسك عمامة، وتتقي أن أحداً بأنك تعتقد أن على رأسك عمامة، بل قد ترى الأولى أن ترمي العمامة حتى يتفق اعتقادك واعتقاد الناس، ولكن افرض رميت بها واعتقدت أنه ليس على رأسك عمامة حتى يتفق اعتقادك واعتقاد الناس، ولكن افرض أنك رميت العامة واعتقدت أنه ليس على رأسك عمامة فلقيك رجل فقال لك: عمامتك هذه كبيرة، ثم لقيك آخر فقال: عمامتك هذه وسخة، ثم ثالث ثم رابع ثم خامس وهلم جرا كل منهم يثبت لك أن على رأسك عمامة، فماذا يكون حالك؟ وقد وقع ما يشبه هذا فكانت نتيجته الجنون!
أُخبرت أنه كان في هذه البلدة امرأة من نساء كبار الأمراء وكان ولد يعارضها ويمانعها عما تريد، واشتدت مضايقته لها، حتى عمدت إلى جماعة أعدتهم لمجالسة ولدها وصحبته وأن يتعمدوا مخالفته وإظهار التعجب منه في أشياء كثيرة، كانوا يقولون في الحلو إنه حامض، وفي الأصفر إنه أحمر، ونحو ذلك ففعلوا ذلك وألحوا فيه حتى تشكك الولد وجن.
و أُخبرت أنه كان لرجل من كبار الوزراء ابن أخ أو قريب آخر، وكان القريب عاقلاً ذكياً فطناً مهذباً نبيل الأخلاق، وكان الأبن دون ذلك فخاف الوزراء أن يموت فيتولى الوزراة قريبه دون أبنه، فأعد جماعة لمجالسة قريبه وأمرهم بمخالفته، وتشكيكه، ففعلوا ذلك حتى جن المسكين. (1)
__________
(1) ومغزى الحكايتين أن من عاش في وسط مخالف له في التفكير والتعبير، فإما أن يوافق هذا الوسط وينسى فكره وعقله، أو يجن إذا أصر على مناقضتهم والخلاف معهم. وقد فسروا الجنون بالحالة التي لا يقدر صاحبها على الأنسجام مع وسطه الذي يعيش فيه.
و قد سمعت من بعض المفكرين في إصلاح العامة أن ذلك يكون بأمرين إما يتنزل رجل ممتاز التفكير إلى طبقتهم حتى يأخذ بأيديهم إلى الارتقاء والتهذيب بلطف، أ, بنبوغ رجل منهم يقودهم برفق وهو في وسطهم لا يترفع عنهم. وقال: هكذا كانت حال الأنبياء والمصلحين مع أممهم أ هـ م ع

الصفحة 358