كتاب التنكيل - دار المعارف (اسم الجزء: 2)

وفي (صحيح مسلم) وغيره قصة أبي ابن كعب رضي الله عنه في اختلاف القراءة وفيها قوله: ((فسقط في نفسي من التكذيب في الجاهلية، فلما رأى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ما قد غشيني ضرب في صدري، ففضت عرقاً، وكأنما أنظر إلى الله فرقاً .. )) ولا يرتاب عاقل أن لإيمان هذا الصحابي الجليل عند تلك الغشية دون إيمانه قبلها وبعدها. وقد عرض لعمر بن الخطاب وغيره قصة الحديبية ما يشبه ذلك. وفي حديث الرجل الذي قاتل مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم: هو من أهل النار: ((فكاد بعض الناس يرتاب)).
ولا يرتاب عاقل أن المؤمنين بتفاوتون في التقوى تفاوتاً عظيماً، وأعظم أسباب ذلك تفاوتهم في اليقين، فإننا نرى أحوالهم في اتقاء الضرر الدنيوي لا يتفاوت ذاك التفاوت. بل إنك تجد من نفسك أنه قد يقوى فترغب نفسك في الطاعة وعن المعصية، وقد يضعف فتتهاون بذلك. وكذلك تجد ذلك عندما تطلع على الأدلة أو الشبهات، فقد يقف العالم على عدة نصوص من الكتاب والسنة فيتبين له أن بعضها يصدق بعضاً، وقد يتراءى له أنها تتناقض. وقد يرى نصوصاً في العقائد، فيتبين له أن العقل موافق لها وقد يتراءى له أنه يخالفها. ويرى نصوصاً في الأحكام فيتبين له أنها موافقة للرأي والنظر والحكمة والقياس، وقد يتراءى له أنها مخالفة لذلك. ويرى نصوصاً في الأخبار عن الجن والشياطين، والأرض والسماء، والشمس والقمر، وغير ذلك، فيتبين له أنها موافقة للواقع، وقد يتراءى له أنها مخالفة له. ويطالع السيرة فيها أموراً واضحة الدلالة على النبوة، وقد يرى فيها ما يتراءى له منه خلاف ذلك. ويسمع من الأطباء وغيرهم ما يوافق ما جاء في الشرع، وقد يسمع منهم ما يخالفه. يطيع النبي صلى الله عليه آله وسلم في بعض الأمور فيناله نفع، وقد يتفق له خلاف ذلك، وهذا كمن يريد سفراً مع رفقة فتعزم الرفقة على الخروج يوم الجمعة قبل الصلاة فيأبى أن يخرج قبل الصلاة للنهي الشرعي عن ذلك، (1) وسافر الرفقة فتصيبهم مصيبة
__________
(1) قلت: لم يثبت النهي عن السفر يوم الجمعة، بل صح عن عمر رضي الله عنه أنه قال لمن سمعه يقول: لولا أن اليوم جمعة لخرجت! قال عمر: ((أخرج فإن الجمعة لا تحبس عن سفر)). راجع لهذا وغيره مما روي في النهي كتابنا ((سلسلة الأحاديث الضعيفة)) رقم (218، 219). ن

الصفحة 368