كتاب التنكيل - دار المعارف (اسم الجزء: 2)

فإن قال: قد قلت: إن هذا الأمر خارج.
قيل له: هذا الأمر الخارج إنما حاصله قوة الدليل في حق الأنبياء، وكونه دون ذلك في حق العلماء، أو ليس من لازم تفاوت الأدلة في القوة تفاوت الجزم بمدلولاتها عند العارف بتفاوتها؟ فالدليل الذي الذي يكون عندك غاية في القوة، ويكون جزمك بمدلوله، وانتفاء نقيضه أقوى من جزمك بمدلول دليل دونه عندك في القوة.
فإن قال: ليس هذا بلازم الجزم قد يقع عن شبهة باطلة.
قلت: من جزم عن شبهة باطلة، فإنه لا يراها شبهة، بل يراها دليلاً قاطعاً، وكلامنا إنما هو في العالم الذي يميز بين الأدلة.
فإن عاد وقال: تفاوت الأدلة مع الجزم بمدلولاتها إنما يكون من جهة إن بعضها لا يحتمل إن تعرض شبهة تشكك فيه، وبعضها يحتمل ذلك.
قيل له: تسمية العارض شبهة، فيه شبه مغالطة، فإن من جزم بشيء ثم عرض له ما يجزم بأنه شبهة، فإن لا يتغير جزمه الأول، وإنما يتغير حيث يجوز أن العارض دليل، فعلى هذا، إذا كنت الآن تجوز في بعض ما تجزم أن يعرض ما يشكك فيه ويزيل جزمك، فمعنى ذلك أنك تجوز أن يعرض مشكك فيه يحتمل أن يكون دليلاً صحيحاً، وأن يكون شبة، (1) ويوضح هذا أن بعض المسائل الحسابية والهندسية واليقينية يجوز لجازم بها بعد أن يحيط بها أن يعرض ما يظهر منه خلاف ما جزم به، ولكنه يجزم الآن بأنه لو عرض ألف عارض من تلك العوارض لما تغرير جزمه، وكما يجزم بهذا في حق نفسه، فكذلك يجزم في حق غيره بأن من عرف تلك المسألة كما عرفها، لا يتغير جزمه ما دام عقله، فهذا هو الذي يصح أن تحكم بأنه جازم أن العارض لا يكون إلا شبهة.
فإن قيل: فما قولك أنت؟
قلت: أقول: إن الإيمان يتفاوت، وإن ذلك التجويز المستعبد إذا كان صاحبه ينفر عنه، ويشفق منه، ويستعيذ بالله عز وجل فإنه لا يضر، بل ولا يضره عروض الشبهة إذا
__________
(1) كذا الأصل لا، ولا تخلوا العبارة من شيء. ن

الصفحة 370