كتاب التنكيل - دار المعارف (اسم الجزء: 2)

صادق في كل ما أخبر به عن الله واستحضر ما تقدم عن أئمتك في مسألة الجهة وفي الباب الثالث: فإن زعمت أنك جازم، فوازن بين ذاك الجزم وبين جزمك بأن الثلاثة أقل من الستة.
وانظر إن كنت فقيهاً في الأحاديث الذي اشتهر أن إمامك يخالفها، وتفكر فيما تعاملها به، وانظر هل تقع منك تلك المعاملة وأنت جازم بأن محمداً رسول الله صادق بكل ما أخبر به عن الله، وأنك محكم له فيما وقع فيه الاختلاف، مسلم لحكمه تسليماً لا تجد في نفسك جرحاً مما قضى؟
وانظر، وانظر، وأعم ذلك أن تنظر في عملك اعمل من يوقن بأن محمداً رسول الله صادق في كل ما أخبر به من التكليف والحساب والجزاء والجنة والنار؟ وهل عملك مساو أو مقارب لعمل النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأفاضل أصحابه وخيار التابعين؟
وأما القضية الثالثة: فإنك إن تدبرت وجدت شأنها أوضح فأن الأمة اختلفت في أمور الإيمان، فمن الناس من يشترط الجزم بثبوت بعض ما تنفيه أنت أو ينفي بعض ما تثبته، أو يعد منها ما لا تعده.
ومن أهل السنة من يشترط المحافظة على الصلوات المكتوبة، والمعتزلة والخوارج يشترطون المحافظة على الفرائض والسلامة من الكبائر، وليس جزمك بخطأ هؤلاء في جميع ما يخالفونك فيه كجزمك بأن الثلاثة أقل من الستة، أفلا تخشى أن يكون من أقوالهم ما هو حق في نفس الأمر، وتكون أنت مقصراً تقصيراً لا تعذر فيه؟!
وقد اختلف الفقهاء في كثير من أحكام الصلاة فلعل كثيراً من صلواتك يقول بعض مخالفيك أنها باطلة، فلعلك غير معذور في مخالفته فيكون حكمك حكم من ترك تلك الصلوات. ولعل فيما تسامح نفسك ما يكون فريضة في نفس الأمر، وفيما تسامح نفسك بفعله ما يكون كبيرة في نفس الأمر، ولعلك لا تستح عذر الجاهل أو المخطئ.
و أشد من ذلك أن رأس أمور الإيمان شهادة ألا آله إلا الله، فهل حققت معنى الألوهية، أفلا تخشى أن يكون في اعتقاداتك وأعمالك ما هو تأليه وعبادة لغير الله عز وجل، وقد قال تعالى: [وما يؤمن أكثرهم بالله وهم مشركون]. يوسف - 106 وقال سبحانه: [اتخذوا أحباركم ورهبانهم أرباباً من دون الله]. التوبة - 31
وفي حديث: ((أتقو الشرك فأنه أخفى من دبيب النمل))، ذكرت طرقه في كتاب (العبادة) وأوضحت أنه على ظاهره. وبسيط هذا المطلب في ذاك الكتاب.
وبالجملة فمن تدبر علم أنه لا يمكنه أن يجزم غير مجازف أنه عند الله مؤمن حقاً إلا أن يريد بقوله ((مؤمن)) معنى ناطق بالشهادتين وإن لم يعرف معناها تحقيقاً، ولا التزم مقتضاهما تفصيلاً، بل قد يكن مصراً على بعض ما ينافيهما، ولاحول ولا قوة إلا بالله.

الصفحة 378