كتاب التنكيل - دار المعارف (اسم الجزء: 2)

و قال سبحانه: [وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ. إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ] هود:118 - 119.
إن قيل: التفرق والاختلاف يصدق بما إذا ثبت بعضهم على الحق وخرج بعضهم عنه، والآيات تقتضي ذم الفريقين.
قلت: كلاَّ، فإن الآيات نفسها على إقامة الدين، والثبات عليه، والاعتصام به، واتباع السراط، بل هذا هو المقصود منها، فالثابت على الصراط لم يحدث شياً، ولم يقع بفعله تفرق ولا اختلاف، وإنما يحدث ذلك بخروج من يخرج من السراط، وهو منهي عن ذلك، فعليه التبعة.
فإن قيل: المكلف مأمور بالاستقامة على السراط، ولا يمكنه الاستقامة عليه حتى يعرفه، وإنما يعرفه بالبحث والنظر والتدبير، وحجج الحق كما سلف في المقدمة غير مكشوفة فالباحث معروف للخطأ، بل متدبر الحجج علم أنه يستحيل في العادة أن لا يخلف الناظرون فبها، فما الجامع بين الأمر باتباع الحجج وهو يؤدي إلى الاختلاف، وبين الزجر عن الاختلاف، وقد قال الله تبارك وتعالى: [لا يكلف الله نفساً إلا وسعها] وقال سبحانه: [فاتقوا الله ما استطعتم].
أقول: وأسأل الله تبارك وتعالى التوفيق: قولي: إن حجج الحق غير مكشوفة، إنما معناه كما سلف إنها بحيث يحتاج في إدراكها إلى عناء ومشقة، ويمكن من له هوى في خلافها أن يغالط نفسه وغيره بحيث يتيسر له زعم أنه إن لم يكن هو المحق فهو معذور، واتباع الحجج لا يؤدي إلى اختلاف،، وإنما يؤدي إليه اتباع الشبهات، وإنما الشأن في أمرين:
الأول: تمييز الحجج من الشبهات.
الثاني: معرفة الاختلاف المنهي عنه. وجماع هذا في أمر واحد هو معرفة السراط المستقيم، وقد بينه الله تعالى بقوله: [صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ]. وقد علمنا أن المنعم عليهم قطعاً من

الصفحة 380