كتاب فتح المنعم شرح صحيح مسلم (اسم الجزء: 2)

381 - عن النعمان بن بشير رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "إن أهون أهل النار عذابا من له نعلان وشرا كان من نار، يغلي منهما دماغه. كما يغلي المرجل ما يرى أن أحدا أشد منه عذابا. وإنه لأهونهم عذابا".

-[المعنى العام]-
توفي والد رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو حمل في بطن أمه، فكفله جده عبد المطلب، حتى مات ورسول الله صلى الله عليه وسلم في الثامنة من عمره، فكفله عمه أبو طالب، وكان فقيرا، كثير العيال، فأنزل محمدا منزلة أعز أبنائه بل كان يصحبه في أسفاره البعيدة، ويترك أولاده، خشية أن يشعر في غيابه بالوحشة ومرارة اليتم، وعلمه التجارة، ثم زوجه خديجة، ولما بعث صلى الله عليه وسلم وقام المشركون يعادونه ويؤذونه وقف أبو طالب يحميه ويدافع عنه، وأرسلت قريش إلى أبي طالب أن يوقف محمدا عن دعوته، أو يخلي بينهم وبينه، ولما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم قولته المشهورة: "والله يا عم لو وضعوا الشمس في يميني، والقمر في يساري؛ على أن أترك هذا الأمر ما تركته حتى يظهره الله أو أهلك دونه" سانده عمه، وشد من أزره وطمأنه على استمرار حمايته، بقولته الخالدة: اذهب يا ابن أخي فقل ما شئت، وادع من شئت، فوالله لا أخذلك ولا أسلمك إليهم أبدا، ورضي أبو طالب أن تعاديه قريش من أجل محمد صلى الله عليه وسلم وقبل الحصار الاقتصادي والمقاطعة الاجتماعية في شعب بني طالب ثلاث سنين من أجل محمد صلى الله عليه وسلم حتى إذا نقضت صحيفة المقاطعة وخرجوا من الشعب مرض أبو طالب مرضه الأخير، فقالت له قريش مستهزئة ساخرة: أرسل إلى ابن أخيك ليرسل إليك من هذه الجنة التي يذكرها دواء يشفيك، فلم يعبأ أبو طالب بهذا الاستهزاء، وأرسل إلى ابن أخيه يدعوه إلى جواره في لحظاته الأخيرة حبا فيه، وحنانا عليه، وحرص رسول الله صلى الله عليه وسلم أن ينطق عمه بالشهادتين، وحرص رأسا الشرك (أبو جهل وابن أبي أمية) المحيطان به أن يظل على دينه، وكانت الإثارة من الجانبين موجهة قوية إلى أبي طالب، وكانت الخاتمة التي أرادها الله أن يموت على دين عبد المطلب.
وبدافع الوفاء انطلق رسول الله صلى الله عليه وسلم يستغفر لعمه وقلبه يتقطع حسرة عليه، فنزل قوله تعالى {إنك لا تهدي من أحببت} [القصص: 56] ونزل {ما كان للنبي والذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين ولو كانوا أولي قربى من بعد ما تبين لهم أنهم أصحاب الجحيم} [التوبة: 113] ومع منع الاستغفار له استجاب الله لنبيه، فخفف العذاب عن عمه، كان عذابه الغمر في النار، بل في الدرك الأسفل من النار، فخفف عنه إلى فراش من نار، جمرتان من نار، يقف عليهما، تحت باطن كل رجل جمرة، يحيط بالرجل من أعلاها سير من نار، يغلي من ذلك دماغه وأم رأسه، كما تغلي القدر بما فيها، يظن أنه أشد أهل النار عذابا وهو أقلهم عذابا.

الصفحة 48