كتاب فتح المنعم شرح صحيح مسلم (اسم الجزء: 2)

وروي أنه عليه الصلاة والسلام لما فرغ من لقاء الجن وضع رأسه على حجر ابن مسعود فرقد، ثم استيقظ، فقال: هل من وضوء؟ قال: لا. إلا أن معي إداوة فيها نبيذ، هل هو إلا تمر وماء؟ فتوضأ منه، وقال: تمرة طيبة وماء طهور.
هذه الروايات بينها وبين روايات الباب تعارض واضح، إذ هي تثبت بوضوح أن ابن مسعود كان مع النبي صلى الله عليه وسلم ليلة الجن، وروايات الباب تنفي بشكل قاطع أنه كان معه، بل ولم يكن أحد معه ليلة ذهب للقراءة على الجن، والأحاديث التي تنفي متأخرة، ففيها التابعي يسأل ابن مسعود فينفي، فيستحيل بناء على هذا الجمع بتعدد الواقعة، فلم يكن مناص من الأخذ برواية ورد الأخرى، ولهذا قال النووي في شرح مسلم بعد أن ذكر روايات الباب: هذا صريح في إبطال الحديث المروي، في سنن أبي داود وغيره، المذكور فيه الوضوء بالنبيذ وحضور ابن مسعود معه صلى الله عليه وسلم ليلة الجن، فإن هذا الحديث [أي الذي في رواية مسلم من روايات الباب] صحيح، وحديث النبيذ ضعيف باتفاق المحدثين ومداره على زيد مولى عمر بن حريث، وهو مجهول. اهـ.
بقي التوفيق بين روايات الباب نفسها، فالرواية الأولى تنفي أن النبي صلى الله عليه وسلم قرأ على الجن، وتنفي أنه رآهم، على معنى أنه صلى الله عليه وسلم حين قرأ على أصحابه في صلاة الفجر لم يكن يقصد القراءة على الجن، ولا يعلم باستماعهم حتى أعلمه الله بعد، والرواية الثانية تثبت أنه صلى الله عليه وسلم ذهب إليهم قاصداً وقرأ عليهم عالماً بهم وسألوه وأجابهم.
وأمام هذا التعارض يقول الحافظ ابن حجر: كأن البخاري حذف من حديث ابن عباس [الرواية الأولى] عبارة "ما قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم على الجن ولا رآهم"، وبدأ حديثه بلفظ "انطلق" لأن ابن مسعود أثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم قرأ على الجن فكان ذلك مقدماً على نفي ابن عباس. اهـ ومعنى ذلك رد هذا الجزء من رواية ابن عباس وترجيح رواية ابن مسعود. ثم قال الحافظ ابن حجر: ويمكن الجمع بالتعدد على معنى أن الجن أتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم مرتين إحداهما بمكة وهي التي ذكرها ابن مسعود، والثانية بنخلة وهي التي ذكرها ابن عباس. اهـ
وهذا الجمع أولى من إهمال جزء من رواية واردة في الصحيح، وقد جزم بذلك النووي، حيث قال: قال العلماء: هما قضيتان، فحديث ابن عباس في أول الأمر، وأول النبوة حين أتوا فسمعوا قراءة {قل أوحي} [ولعل مراد النووي: حين أتوا فسمعوا قراءة النبي صلى الله عليه وسلم لأصحابه في صلاة الصبح، فنزل عليه بعد ذلك {قل أوحي} واختلف المفسرون. هل علم النبي صلى الله عليه وسلم استماعهم حال استماعهم بوحي أوحي إليه؟ [وحينئذ يتعارض ظاهره مع قول ابن عباس: ما قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم على الجن] أم لم يعلم بهم إلا بعد ذلك؟ وأما حديث ابن مسعود فقضية أخرى جرت بعد ذلك بزمان، الله أعلم بقدره، وكان بعد اشتهار الإسلام. اهـ
أما متى كانت القراءة الأولى والثانية فيقول ابن إسحاق والواقدي: لما أيس رسول الله صلى الله عليه وسلم من

الصفحة 627