كتاب المنهاج في شعب الإيمان (اسم الجزء: 2)

لزكريا صلوات الله عليه، فقد كان كافلها والقيم عليها، ولم تحل مع ذلك من عمل لأنها كانت تخرج من المسجد فتأتي السقاية لتأخذ من الماء حاجتها وهو وقد هربت بعد الولادة بعيسى صلى الله عليه وسلم. وليس على ما يكون لأجل الأنبياء عليهم السلام قياس.
وأما قوله صلى الله عليه وسلم: (انتظار الفرج بالصبر عبادة) فمعناه لا مخلص ولا مفرج إلا الصبر. فأما من جعل الله تعالى له إلى الخلاص مما هو فيه سبيلا، فينبغي له أن يسلكها متوكلا على الله تعالى أن يؤدي به ذلك إلى الخلاص. ألا ترى أن الأسير في دار الحرب إذا قدر على الانقلاب من أيدي المشركين، فعليه أن ينقلب ويتوكل على الله تعالى في انقلابه ليعصمه، فلا يؤاخذه برد أو تقبل. والجائع إذا حضره الطعام فعليه أن يطعم ويتوكل على الله ليرزقه خير الطعام، ويدفع عنه ضرورة لا أن يصير عنه متوكلاً عند نفسه والله أعلم.
فأما قول أبي بكر الصديق رضي الله عنه: قد رآني الطبيب، فقال: إني فعال لما أريد، وقول أبي الدرداء رضي الله عنه: هو اضجعني فمحمول على أنهما علما أن آجالهما تصرمت أما برؤيا أو ببعض العلامات، يدل على ذلك أن أبا بكر قال لعائشة رضي الله عنها في ذلك المرض. إني كنت مجليك واحد وعشرين وسقا ووددت لو كنت خريب وإنما هو اليوم مال الوارث، فقطع بأنه موروث ولو لم يكن عنده علم واقع بذلك لم يقله، فلذلك لم يأذن في دعاء الطبيب لا أنه لم يرض المعالجة حقًا والله أعلم.
وأما قول من قال: إنا وجدنا كثيرًا من السؤال يخدمون، ومن المتعففين يعطون إلى آخر الفصل، فجوابه أن يقال: ووجدنا كثيرًا من المتضورين يموتون جوعًا ومن المعترضين لما أباحه الله تعالى لهم يرزقون، فيحيون ويعيشون. وقد وجدنا من يحضره الطعام فيهم يأكله، فحال بينه وبينه. ومن يؤتى ما ليس عنده فيلقيه، فليكن هذا دليلاً على أن تناول الطعام الحاضر والمقصد إليه ليس بجواب على المحتاج إليه، وليكن ما قلناه دليلاً على أن التصبر لا معنى له، وإلا فقد وقف الأمران موقفًا واحدًا، فيحتاج إلى الفصل بينهما، فنقول -وبالله التوفيق- إن الله تعالى هو الذي وضع المكاسب للناس فأباحها لهم، وهو الذي فرض على الأغنياء أن يواسوا المحتاجين، وعلى المستطيعين أن يعينوا اللهفان،

الصفحة 13