كتاب المنهاج في شعب الإيمان (اسم الجزء: 2)

فوبخهم على ما كان منهم، حين قدم دحية الكلبي والنبي صلى الله عليه وسلم على المنبر يخطب، فانفضوا عنه، وخرجوا إلى أبواب المسجد ينظرون إلى دحية ومن معه، وما قدم به من أقسام، ودلهم على عظيم خطئهم وسوء صنيعهم، بأن قرر عندهم حالة النبي التي كانت له منهم حين وقع منهم ما وقع. فقال:} وتركوك قائمًا {أي تركوك وأنت قائم لأجلهم تخاطبهم عن الله عز وجل وتعظمهم وتذكرهم وتدعوهم إلى الله عز وجل، أو تدعو الله لهم وتستغفر ذنوبهم وهم مترفهون بالجلوس لا شغل لهم إلا الاستماع، فلا يرعون حقك ولا يتفكرون في قيامك وخطابك ويعرضون عما فرض الله تعالى من الاستماع إليك عليهم، ولكنهم يريدون هذا كله ويخرجون جهارة فعل أهل اللهو، وفي هذا من إيجاب تعظيمه وتوقيره بغير ما في الآيات قبلها والله أعلم.
ثم أن المخاطبين بهذه الآيات من الصحابة انتهوا إلى العمل بها وبلغوا في تعظيم رسول الله صلى الله عليه وسلم ما عرفوا بعض حقه، فروى عن عبد الله بن مسعود حين كلم رسول الله صلى الله عليه وسلم في سهيل بن بيضاء يوم بدر قال: فجعلت أنظر مني الحجارة من السماء، وقلت أقدم بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ويورى في قصة الحديث أن عروة بن مسعود الثقفي لما جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم وكلمه في الصلح، ورجع إلى الصحابة وقال: وأي قوم، والله لقد دخلت على الملوك ودخلت على كسرى وقيصر والنجاشي، والله إن رأيت قط ملكًا يعظمه أصحابه كما يعظم أصحاب محمد محمدًا، والله أن تنخم نخامة إلا وقعت في يد رجل منهم، فذلك بهي وجهه وجلده، وإذا أمرهم ابتدروا أمره، وإذا توضأ كادوا يقتتلون على وضوئه، وإذا تكلموا خفضوا أصواتهم عنده، وما يجدون النظر إليه تعظيمًا له.
فهذا كان من الذين ورثوا مشاهدته وصحبته. فأما اليوم فمن تعظيم زيارته، فقد جاء عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: (من زارني بعد وفاتي فكأنما زارني في حياتي). ومن تعظيمهم: تعظيم حرمه -أعني المدينة- والانتهاء، كما حرمه منها وقتها، وأكرم أهلها لأجل سلفهم الذين آووه ونصروه.

الصفحة 130