كتاب المنهاج في شعب الإيمان (اسم الجزء: 2)

فعلمنا أن كل ما بين الله تعالى لعباده فيه طريقا فسبيلهم أن يسلكوه ويتوكلوا عليه في سلوكه، إلا أن يعرضوا عنه ويزعموا أنهم متوكلون عليه مع مفارقتهم وضعه وأمره، وانتهائهم إلى ما لم يأذن لهم فيه والله أعلم.
وقد قال الله عز وجل:} إن الذين توفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم، قالوا: فيم كنتم؟ قالوا: كنا مستضعفين في الأرض، قالوا: ألم تكن أرض الله واسعة فتهاجروا فيها {فأخبر أن الملائكة يوبخون الذين يقيمون ببلد لا ينفد لهم فيه الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، معتذرين بأنهم كانوا مستضعفين في الأرض، ويقولون: ألم تكن أرض الله واسعة فتهاجروا فيها، فلو كانوا إذا تصبروا وهم مستضعفون فاقتصروا على التوكل من غير هجرة معذورين، أو كان ذلك أفضل لهم لما عاتبتهم الملائكة على مقامهم. فإن الملائكة لا توبخ من كان آثر الأفضل واختاره والله أعلم.
وكل ما ذكرنا في الآيات التي كتبناها من ذكر الصبر مع التوكل نحو قوله عز وجل:} الذين صبروا وعلى ربهم يتوكلون {وقوله:} ولنصبرن على ما آذيتمونا، وعلى الله فليتوكل المتوكلون {فلا يخلو من وجهين:
أما أن يكون المراد من صبر حين لم يكن له وجه إلا الصبر. وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم في أول أمره مأمورًا بالصبر، فلم يكن يلزمه يومئذ غيره، ولكنه لما أمره وقفوا الصبر إلى الهجرة ثم يضم إلى الهجرة ثم يحره الصبر وإن استشعر في نفسه التوكل المراد من صبر على مجاهدة الأعداء أو الصبر على الهجرة التي أمر بها واحتمل جهدها ومشقتها، متوكلا على الله عز وجل في أن الحسن أمانته ويكفيه ما أهمه وليس واحد منهما قادحًا في أصلنا بحمد الله ومنه.
وقول نوح صلوات الله عليه لقومه:} إن كان كبر عليكم مقامي وتذكيري {. الآية إلى آخرها، خارج على أنه لم يكن مأمورًا بالهجرة ولا ممكنًا من القتال، وإنما كان فرضه الصبر على ما يلقاه من الأذى، وقد كان الله تعالى اعلمه ما هو فاعل بقومه، وقال

الصفحة 17