كتاب المنهاج في شعب الإيمان (اسم الجزء: 2)

فغضب فذلك له. وإن أراد بالخروج الفرار من الوباء فلا ينبغي له أن يفعله، لأن الوباء إذا كان غالبًا، فالظاهر أن الله تعالى أرسله إلى عامة أهل البلد، فلا يخرج منه أحد بأن يستثنى نفسه فيعتزل وإنما يخرج منه بأن يستثنه الله تعالى فيسلمه. والفرار من الوباء باستثناء منه لنفسه، وذلك مما لا يملكه فكان ممنوعًا عنه، ولزمه أن يقيم. فإن كان له عند الله استثناء فسيعصمه، وذلك أشبه بالعبودة والتسليم لحكم الله تعالى من الفرار. ليس الفرار في هذا المجال كالتداوي من المرض خيفة الهلاك، وكالفرار من المجذوم خيفة العدوى، كما ذكرت أن من ظاهر الوباء المرسلة أن أرسلها على الجماعة فليس لأحد منهم أن يقذف في مخلصها منها بجلده وحيلته، وتناقض بذلك العبودة. وليس التداوي كذلك، لأن الله تعالى لم يخلق الدواء إلا ليدفع به الداء، فهو فرار إلى الله تعالى لا فرار منه، وإنما الفرار من المجذوم فلأن ابتلاء الله تعالى إياه بالجذام ليس ليعدي منه إلى غيره، كما الظاهر من الوباء الواقع في البلد أنه مرسل على جماعة أهله، فلم يكن الفرار منه فرارًا من عدوى، فوجهت نحوه في الظاهر، فكان كمن يسمع الوباء في بلد فيمتنع عن قصده ودخوله، لا كمن حصل فيه فيريد الخروج منه والله أعلم.
ووجه آخر. وهو أنه يحتمل أن يكون بدنه قد استعد لذلك، فإذا انتقل عنه إلى بلد أكيف هواء منه اختفت مادة المرض الموجودة في جوفه، ولم ينتشر ولم يبرز إلى ظاهر البدن كما كانت تكون لو بقي في ذلك البلد، وما يخش من ذلك أكثر ما يخش من المقام في بلد الوباء.
وفيه وجه ثالث وهو أنه إذا كان حدث في بدنه شيء من الوباء الذي كان في ذلك البلد فانتقل إلى بلد آخر لم يؤمن أن يعدي الآبار التي تعلقت ذلك الوباء في البلد الذي انتقل إليها، فلذلك كان النهي والله أعلم.
فأما واحد يقدم بلدًا أو جماعة يقدمون فلا تأتهم أرضه ولا ماؤه وهواؤه، فيمرضون، فلهم أن ينتقلوا عنه، لأن النبي صلى الله عليه وسلم نقل الغريبين الذين قدموا المدينة فاجتووها، فلم يلزمهم المقام بها، وليس في ذلك واحد من المعاني الثلاثة التي ذكرتها لأن البلد في هذه الحال ملائم أهله وإنما يلائم الغرباء فليتبعوا، كالطعام المحمود في نفسه إذا لم يوافق واحدًا بعينه كان سبيله أن يجتنبه.

الصفحة 33