كتاب المنهاج في شعب الإيمان (اسم الجزء: 2)

فيأخذ مكانه ببغية ولا يسهله ولا يكاد يعرف من أسباب هذه الأمور ما يعرف من أسباب شفاء المرضي بالأدوية، وإزاحة المبتلي بسلطان جائر. أما بإلهامه الرأفة به، وأما بتنبيه من يشفع له، وحفظ المار على اللصوص باغفالهم عنه، أو صدف همهم عما معه، وإلهامهم خوفًا منه، أو من غيره لأجله وغير ذلك. وصيانة دار الواحد عن النار في حريق واقع، إما بإرسال ريح تصرف النار عنها إلى غير وجهها، وإما بتسيير إطفائها. قبل أن يبلغها. وإما ببقائها في شيء مجانب لها، فتصير بذلك عادلة عن طريقها. فإن هذه أمور قد عرفت وجوهها، فأمكن الإعراب عنها والإشارة إليها، وتلك التي ذكرناها والعين معها إنما تضاف في الجملة إلى قدرة الله تعالى وإرادته من غير معتد لأنه ليس لشيء من الأحداث والكوائن سوى إرادة الله تعالى سبب يوجبه وما عدا إرادته بدعاء سببًا. بمعنى أنه الوقت أو الحال التي أراد الله تعالى الكون عندها، فعلى هذا سبب الإخلاص من البحر دعاؤهم وتضرعهم. وسبب السقيا في حال الجدب الدعاء والمسألة. وسبب أخذ الباغي ببغيه ادعاؤه من القدرة والبسطة ما لا ينبغي إلا لله جل ثناؤه. كما أن سبب شفاء المريض إذا تداوي بدواء إلى أمر الله تعالى أن يتداوى به. وسبب انصراف النار، والسلامة من اللص والخلاص من السبع والسلطان الجائر ما وصفت. وليس يجب بقوله أنها أسباب، إلا أنها الأوقات والأحوال التي أراد الله حلول قضاياه وأقداره عندها. وإلا فليس شيء منها موجبًا كون ما يتفق كونه بهذه إذًا وهلاك ما يهلك بالعين وسائر ما ذكر معه سواء لا فرق بينهما والله أعلم.
وقد انتهى في هذا الموضع بيان ما أردنا بيانه من أن كل حادث من الله تعالى لم يبتليه به طريقًا يسلكه ويستبيح به حاجته بسلوكه، والأولى به أن يقبل ذلك عن الله تعالى جده، ويستشعر التوكل عليه عز اسمه في قبول ما نهجه له عنه، لا في مفارقته وانتهاج نهج سواه برأيه والله أعلم.
فإن قال قائل: كل شيء فرض الله تعالى علينا فيه فرضًا معلومًا، فلسنا نقول أن تركه إلى التوكل يجوز. وذلك كالأكل من الطعام عند شدة الجوع واللبس عند البرد، وجودًا للبأس وقتال المشركين في كثير من الأحوال. وأما ما لم يفرضه، ولكنه أباحه كالتداوي

الصفحة 42