كتاب المنهاج في شعب الإيمان (اسم الجزء: 2)

من الأمراض والاسترقاء والاستطعام عند الحاجة ونحو ذلك. فينبغي أن يكون الصبر والاقتصار على الدعاء والتوكل أفضل لأن المتداوي والمسترقي والمستطعم لا يجدون بدًا من التوكل فهو إذًا واجب بكل حال فينبغي أن يكون ما خلص منه وتجرد عن واسطة بين الله تعالى وبين العبد أفضل مما يكون مع الوسائط.
فالجواب: أن الوسائط لو كانت غير ما دون فيها وكان الناس يصيرون إليها بمجرد آرائهم وظنونهم لكان الأمر على ما ذكرتم، ولكنها أوضاع من الله تعالى، وضعها ودبر أمور عباده بها، وجرى النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه والتابعون بعدهم على استعمالها. فلا معنى بعدهم للرغبة عنها وطلب الفضل في رفضها، لأن القبول في إتباعها أكثر منها في استشعار الغيبة عنها. ألا ترى أن الدعاء أيضًا ليس بفرض، ولكن رفع الحاجة إلى الله تعالى بالدعاء أفضل من التوكل المجرد عن الدعاء. وما ذلك إلا لأن الله تعالى جعل الدعاء سبيلا للمؤمن. إلى استنجاح الحاجة فكان سلوك السبل المجعولة له أشبه بالعبودية والاستكانة والخشوع والذلة عن مجرد الصمت والصبر فكذلك سبيل التي ذكرناها. ولو جاز الفصل بينهما وبين ما وصفه السائل بالوجوب لجاز الفصل أيضًا من تلك الواجبات وبين الدعاء، فلما لم يكن في ترك الدعاء وإن لم يكن واجبًا فصل. فلذلك لا فصل بين بعض الأسباب للآخر، وقطعها، وإن لم تكن بأعيانها فريضة واجبة.
وأيضًا فإن فرض الله تعالى ما فرض من السبب إلى بعض الأشياء، دليل على أن السبب حيث لم يفرضه، ولكنه أباحه أولى من تركه لأن ترك التسبب في الأصل لو كان أفضل لكان الفرض إذا وقع يقع من جنسه. فلما لم يفرض على أحد قط توكلاً بلا سبب مقدور عليه، وفرض السبب إذا كان مقدورًا عليه في بعض الأشياء، علمنا أن التسبب أفضل من مجرد الصبر ورفض السبب والله أعلم.
وفي المسألة وجه ثالث: وهو أن كل من كان قوي العزم يقدر على تجريد الصبر وترك مجاوزته إلى الدعاء، وكان إذا تصبر مدة، فلم ينكشف عنه صبره لم يعد إلى التسبب، ولم يندم على إجباره التصبر عليه، أو لم يكن في عامة أوقاته شاكيًا في أن الصبر الذي آثره أعود عليه، والتسبب أولى به، أو السبب. فكان إذا صبر وقتًا لم يثبت على

الصفحة 43