كتاب المنهاج في شعب الإيمان (اسم الجزء: 2)

وقال في آية أخرى منها، ومحتجًا: {وفي أنفسكم أفلا تبصرون}. فكان معنى ذلك، وفي أنفسكم دلالات الحدث، وفي الأحوال المتقلبة بهم من حيث لم يتفكروا فيها. فإن تلك الأحوال إذا كانت أحداثًا، ولم يكونوا نقلوا منها قط، فواجب أن يعلموا أنهم أحداث، والحدث لا يخلو من يحدثه. فقيل معنى ذلك: أنكم تعلمون من أنفسكم، أنكم لم تكونوا ثم كنتم، فلا يخلوا أحدكم من أن يكون هو الذي خلق نفسه، أو أبواه خلقاه، أو غيره وغيرهما، ولا يمكن أن يكون خلق نفسه لأنه لو شاء بعد (أن) تمت قواه وكمل عقله أن يتم من نفسه عضوًا ناقصا لم يقدر عليه، فوجب أن يعلم أنه كان إذا كان نطفة مواتًا من أن يقلب نفسه كمالًا محالًا أبعد، وعنه أعجز. ثم يعلم أنه إذا كان موجودًا غير إنه ضعيف أموات لا يقدر على شيء من أمره، فهو إذا كان عدمًا من ذلك أبعد، ولا يمكن أن يكون أبواه فعلاه، لأن الأبوين في العجز الذي ذكرنا مثله. فإذا استحال أن يكون فعلًا لنفسه، استحال أن يكون فعلًا لأبويه، فحق إنه إذا فعل فاعل غيره وغير أبويه، وإنما يراد بالله ذلك الفاعل، أفلا تبصرون، أفلا تدركون بعقولكم ما فيها من هذه الهداية، فتهتدوا بها ولا تكفروا.
فإن قال قائل: الفاعل هو الطبع: قيل له: وما الطبع فإن هذا الاسم نفسه يدل على أن المسمى به فاعلًا، لأن الطبع لا يكون إلا فعل الطابع، كما لا يكون الضرب إلا فعل الضارب. وهكذا، إن قالوا: الطبيعة، لأن الطبيعة اسم للمفعول، فإن الطبيعة هي المطبوعة، كما أن القتيلة هي المقتولة، والذبيحة هي المذبوحة، والصنيعة هي المصنوعة، والمفعول في اقتضاء الفاعل كالفعل.
فإن قالوا: الطبيعة قوة مخصومة، فذكروها ونعتوها. قيل لهم: القوة عرض لإبقاء له، فيستحيل أن تؤلف الأجسام، كما يستحيل على اللون أن يفعل ذلك، وعلى الصوت والطعم. ولأن خلق الإنسان فعل شديد متقن، فلا يمكن أن يكون قد صدر إلا عن عالم حكيم. القوة لا تليق بها الحياة ولا القدرة ولا العلم ولا الحكمة، فأنى يمكن أن يكون الخلق وقع منها؟ فإن وصفوا الطبيعة بهذه الصفات، كانوا مشيرين لمن هي له إلى

الصفحة 548