كتاب المنهاج في شعب الإيمان (اسم الجزء: 2)

وقد علم تعالى أنه إنما فعل ذلك كله وغيره على لسان النبي صلى الله عليه وسلم ومما وقفه له من البلاغ وحبه وحث الناس على إتباعه وزجرهم عن مخالفته ومقاصاته الشدائد في نظم العرب عما كانوا ألفوه في الجاهلية الجهلاء عن سفك الدماء وقطع الأرحام وسلب الأعراض ونهب الأموال. وحملهم على شريعة أيسر الشرائع كلفًا، وأخفها محملاً، وأبعدها من الأصفاد والأغلال. التي هي على من تقدمهم من غير أن يسألهم على أمر من أمورهم في حال اجرًا، أو ألزمهم لنفسه مؤونة. إنما قطع الله تعالى له من مال المشركين ما قطع، ومنعه من مال المسلمين ما صنع، لئلا تكون يده ولا نفسه الشريفة محمل منه، ولا موضع ظهره.
فإذا تأمل العاقل مواقع الخيرات التي ساقها الله تعالى إلى عباده بالنبي صلى الله عليه وسلم في الدنيا، وما هو سائقة إليهم بفضله من شفاعته لهم في الآخرة علم أنه لا حق بعد حقوق الله تعالى أوجب نم حق النبي صلى الله عليه وسلم أنه ألزم لكل أحد من أمته من حق أبويه لم يكونا إلا سبب كونه ووجوده. والنبي صلى الله عليه وسلم كان سبب انتفاعه بنفسه وحياته وعقله وسمعه وبصره وجميع أعضائه وجوارحه، والزمان الذي يحويه، ألا ترى أن الذين لم يرزقوا شرف الإيمان به، كيف دعوا صمًا بكمًا عميًا، وقال:} إن هم إلا كالأنعام بل هم أضل سبيلاً {وسبب سلامة روحه وبدنه وأهله وولده وماله. فإن الناس عند استيلاء الكفر عليهم، كانوا متمازجين تمازج السباع وقوامها عن عزيز، ومن فكر بتلك لا آمن لأحد منهم على نفس ولا عرض ولا مال ولا ولد ولا أهل.
فلما رزقوا الإسلام بمجيء الرسول صلى الله عليه وسلم ودخلوا في طاعته، نالوا الأمن ووجدوا رفاهية العيش ولذة الحياة، وسلم لكل أحد زوجه وبدنه وعرضه وماله، مما أرسله الله تعالى به نم الأمر والنهي. وشرع على لسانه من الحدود الرادعة عن الظلم والعدوان، المانعة من الفسوق والعصيان، فكانت همته جل جلاله عليهم بمكانه أعظم من نعمة الوالدين اللذين لم يكونا إلا سبب الوجود، ولئن علما وأذنا وراضًا ونصرا، فبأمره صلى الله عليه وسلم وبحب شريعته ومنهاجه، ولهذا جعل الله منزلته من أمته فوق منزلة الوالد. فقال النبي صلى الله عليه وسلم:

الصفحة 76